سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَاحْتج أَصْحَابنَا بِحَدِيث الْبَراء بن عَازِب، قَالَ:(كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا كبر لافتتاح الصَّلَاة رفع يَدَيْهِ حَتَّى يكون إبهاماه قَرِيبا من شحمتي أُذُنَيْهِ ثمَّ لَا يعود) . أخرجه أَبُو دَاوُد والطَّحَاوِي من ثَلَاث طرق وَابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : فَإِن قَالُوا: فِي حَدِيث الْبَراء قَالَ أَبُو دَاوُد: روى هَذَا الحَدِيث هشيم وخَالِد وَابْن إِدْرِيس عَن يزِيد ابْن أبي زِيَاد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن الْبَراء، وَلم يذكرُوا: ثمَّ لَا يعود. وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يقل أحد فِي هَذَا: ثمَّ لَا يعود، غير شريك. وَقَالَ أَبُو عمر: تفرد بِهِ يزِيد، وَرَوَاهُ عَنهُ الْحفاظ فَلم يذكر وَاحِد مِنْهُم. قَوْله:(ثمَّ لَا يعود) . وَقَالَ الْبَزَّار: لَا يَصح حَدِيث يزِيد فِي رفع الْيَدَيْنِ ثمَّ لَا يعود. وَقَالَ عَبَّاس الدوري عَن يحيى بن معِين: لَيْسَ هُوَ بِصَحِيح الْإِسْنَاد وَقَالَ أَحْمد: هَذَا حَدِيث واه، قد كَانَ يزِيد يحدث بِهِ لَا يذكر: ثمَّ لَا يعود، فَلَمَّا لقن أَخذ يذكرهُ فِيهِ. وَقَالَ جمَاعَة: إِن يزِيد كَانَ يُغير بِآخِرهِ، فَصَارَ يَتَلَقَّن. قُلْنَا: يُعَارض قَول أبي دَاوُد قَول ابْن عدي فِي (الْكَامِل) رَوَاهُ هشيم وَشريك وَجَمَاعَة مَعَهُمَا: عَن يزِيد بِإِسْنَادِهِ، وَقَالُوا فِيهِ: ثمَّ لم يعد، فَظهر أَن شَرِيكا لم ينْفَرد بِرِوَايَة هَذِه الزِّيَادَة، فَسقط بذلك أَيْضا كَلَام الْخطابِيّ: لم يقل فِي هَذَا: ثمَّ لَا يعود غير شريك. فَإِن قلت: يزِيد ضَعِيف وَقد تفرد بِهِ؟ قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن رَوَاهُ أَيْضا عَن ابْن أبي ليلى، فَكَذَلِك أخرجه الطَّحَاوِيّ، إِشَارَة إِلَى أَن يزِيد قد توبع فِي هَذَا. وَأما يزِيد فِي نَفسه فَإِنَّهُ ثِقَة. فَقَالَ الْعجلِيّ: هُوَ جَائِز الحَدِيث وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان: هُوَ، وَإِن تكلم فِيهِ لتغيره، فَهُوَ مَقْبُول القَوْل عدل ثِقَة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا أعلم أحدا ترك حَدِيثه، وَغَيره أحب إِلَى مِنْهُ. وَقَالَ ابْن شاهين فِي كتاب (الثِّقَات) : قَالَ أَحْمد بن صَالح: يزِيد ثِقَة، وَلَا يُعجبنِي قَول من يتَكَلَّم فِيهِ. وَخرج حَدِيثه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) . وَقَالَ السَّاجِي: صَدُوق، وَكَذَا قَالَ ابْن حبَان وَخرج مُسلم حَدِيثه، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك جَازَ أَن يحمل أمره على أَنه حدث بِبَعْض الحَدِيث تَارَة، وبجملته أُخْرَى، أَو يكون قد نسي أَولا ثمَّ تذكر. وَقد اتقنا الْكَلَام فِيهِ فِي (شرحنا للهداية) وَالَّذِي يحْتَج بِهِ الْخصم من الرّفْع مَحْمُول على أَنه كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، ثمَّ نسخ. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن عبد الله بن الزبير رأى رجلا يرفع يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة عِنْد الرُّكُوع وَعند رفع رَأسه من الرُّكُوع، فَقَالَ لَهُ: لَا تفعل، فَإِن هَذَا شَيْء فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ تَركه، وَيُؤَيّد النّسخ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عبد الله ابْن يُونُس، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش عَن حُصَيْن عَن مُجَاهِد، قَالَ: صليت خلف ابْن عمر فَلم يكن يرفع يَدَيْهِ إلاّ فِي التَّكْبِيرَة الأولى من الصَّلَاة. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا ابْن عمر قد رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله.
وَأخرجه أَيْضا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا أَبُو بكر بن عِيَاض عَن حُصَيْن عَن مُجَاهِد، قَالَ: مَا رَأَيْت ابْن عمر يرفع يَدَيْهِ إلاّ فِي أول مَا يفْتَتح، فَقَالَ الْخصم: هَذَا حَدِيث مُنكر، لِأَن طاووسا قد ذكر إِنَّه رأى ابْن عمر يفعل مَا يُوَافق مَا روى عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك، قُلْنَا: يجوز أَن يكون ابْن عمر فعل مَا رَوَاهُ طَاوُوس يَفْعَله قبل أَن تقوم الْحجَّة عِنْده بنسخة، ثمَّ قَامَت الْحجَّة عِنْده بنسخة فَتَركه، وَفعل مَا ذكره عَنهُ مُجَاهِد، فَإِن احْتج الْخصم بِحَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ، فَجَوَابه أَن أَبَا دَاوُد قد أخرجه من وُجُوه كَثِيرَة: أَحدهَا عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَلَيْسَ فِيهِ ذكر رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع، وَالطَّرِيق الَّذِي فِيهِ ذَلِك فَهُوَ عَن عبد الحميد بن جَعْفَر، فَهُوَ ضَعِيف. قَالُوا: إِنَّه مطعون فِي حَدِيثه فَكيف يحتجون بِهِ على الْخصم؟ فَإِن قلت: هُوَ من رجال مُسلم قلت: لَا يلْزم من ذَلِك أَن لَا يكون ضَعِيفا عِنْد غَيره، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَالْحَدِيث مَعْلُول بِجِهَة أُخْرَى، وَهُوَ أَن مُحَمَّد بن عمر وَابْن عَطاء لم يسمع هَذَا الحَدِيث من أبي حميد وَلَا مِمَّن ذكر مَعَه فِي هَذَا الحَدِيث مثل أبي قَتَادَة وَغَيره فَإِنَّهُ توفّي فِي خلَافَة الْوَلِيد بن يزِيد بن عبد الْملك، وَكَانَت خِلَافَته فِي سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة، وَلِهَذَا قَالَ ابْن حزم: وَلَعَلَّ عبد الحميد ابْن جَعْفَر وهم فِيهِ، يَعْنِي فِي رِوَايَته عَن مُحَمَّد بن عمر وَابْن عَطاء. فَإِن قَالَ الْخصم: قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : حكم البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) : بِأَنَّهُ سمع أَبَا حميد، قُلْنَا: الْقَائِل بِأَنَّهُ لم يسمع من أبي حميد هُوَ الشّعبِيّ، وَهُوَ حجَّة فِي هَذَا الْبَاب، وَإِن احْتج الْخصم بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي أخرجه ابْن مَاجَه، قَالَ:(رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرفع يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة حَذْو مَنْكِبَيْه حِين يفْتَتح الصَّلَاة وَحين يرْكَع وَحين يسْجد) ، فَجَوَابه أَنه من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن صَالح بن كيسَان، وهم لَا يجْعَلُونَ إِسْمَاعِيل فِيمَا يرْوى عَن غير الشاميين حجَّة، فَكيف يحتجون بِمَا لَو احْتج بِمثلِهِ عَلَيْهِم لم يسوغوه إِيَّاه؟ وَقَالَ النَّسَائِيّ: إِسْمَاعِيل ضَعِيف.