صل رَكْعَتَيْنِ، وحث النَّاس على الصَّدَقَة، قَالَ: فَألْقوا ثيابًا فَأعْطَاهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا كَانَت الْجُمُعَة الثَّانِيَة جَاءَ وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَحَث النَّاس على الصَّدَقَة، قَالَ. فَألْقى أحد ثوبيه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: جَاءَ هَذَا يَوْم الْجُمُعَة بهيئة بذة فَأمرت النَّاس بِالصَّدَقَةِ فَألْقوا ثيابًا، فَأمرت لَهُ مِنْهَا بثوبين، ثمَّ جَاءَ الْآن فَأمرت النَّاس بِالصَّدَقَةِ فَألْقى أَحدهمَا، فانتهره وَقَالَ: خُذ ثَوْبك) . انْتهى. وَكَانَ مُرَاده بأَمْره إِيَّاه بِصَلَاة رَكْعَتَيْنِ أَن يرَاهُ النَّاس ليتصدقوا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي ثوب خلق. وَقد قيل: إِنَّه كَانَ عُريَانا، كَمَا ذَكرْنَاهُ، إِذْ لَو كَانَ مُرَاده إِقَامَة السّنة بِهَذِهِ الصَّلَاة لما قَالَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا قلت لصاحبك: أنصت، وَالْإِمَام يخْطب فقد لغوت) . وَهُوَ حَدِيث مجمع على صِحَّته من غير خلاف لأحد فِيهِ، حَتَّى كَاد أَن يكون متواترا، فَإِذا مَنعه من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ فرض فِي هَذِه الْحَالة فَمَنعه من إِقَامَة السّنة، أَو الِاسْتِحْبَاب بِالطَّرِيقِ الأولى، فَحِينَئِذٍ قَول هَذَا الْقَائِل، فَدلَّ على أَن قصَّة التَّصْدِيق عَلَيْهِ جُزْء عِلّة لَا عِلّة كَامِلَة غير موجه، لِأَنَّهُ عِلّة كَامِلَة. وَقَالَ أَيْضا: وَأما إِطْلَاق من أطلق أَن التَّحِيَّة تفوت بِالْجُلُوسِ، فقد حكى النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) عَن الْمُحَقِّقين أَن ذَلِك فِي حق الْعَامِد الْعَالم أما الْجَاهِل أَو النَّاسِي فَلَا. قلت: هَذَا حكم بِالِاحْتِمَالِ، وَالِاحْتِمَال إِذا كَانَ غير ناشىء عَن دَلِيل فَهُوَ لَغْو لَا يعْتد بِهِ، وَقَالَ أَيْضا فِي قَوْلهم: (إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خَاطب سليكا سكت عَن خطبَته حَتَّى فرغ سليك من صلَاته) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِمَا حَاصله أَنه مُرْسل، والمرسل حجَّة عِنْدهم. وَقَالَ أَيْضا: فِيمَا قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ، من أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما تشاغل بمخاطبة سليك سقط فرض الِاسْتِمَاع عَنهُ، إِذْ لم يكن مِنْهُ حِينَئِذٍ خطْبَة لأجل تِلْكَ المخاطبة، وَادّعى أَنه أقوى الْأَجْوِبَة. قَالَ: هُوَ من أَضْعَف الْأَجْوِبَة، لِأَن المخاطبة لما انْقَضتْ رَجَعَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خطْبَة وتشاغل سليك بامتثال مَا أَمر بِهِ من الصَّلَاة. فصح أَنه صلى فِي حَالَة الْخطْبَة. قلت: يرد مَا قَالَه من قَوْله هَذَا مَا فِي حَدِيث أنس الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ الَّذِي ذكرنَا عَنهُ أَنه قَالَ: وَالصَّوَاب أَنه مُرْسل، وَفِيه: (وَأمْسك أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْخطْبَة حَتَّى فرغ من صلَاته) يَعْنِي: سليك، فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل: فصح أَنه صلى فِي حَالَة الْخطْبَة، وَالْعجب مِنْهُ أَنه يصحح الْكَلَام السَّاقِط؟ وَقَالَ أَيْضا: قيل: كَانَت هَذِه الْقَضِيَّة قبل شُرُوعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْخطْبَة، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله فِي رِوَايَة اللَّيْث عِنْد مُسلم: (وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاعد على الْمِنْبَر) . وَأجِيب: بِأَن الْقعُود على الْمِنْبَر لَا يخْتَص بِالِابْتِدَاءِ، بل يحْتَمل أَن يكون بَين الْخطْبَتَيْنِ أَيْضا، قلت: الأَصْل ابْتِدَاء قعوده بَين الْخطْبَتَيْنِ، مُحْتَمل فَلَا يحكم بِهِ على الأَصْل على أَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه بِأَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وسؤاله إِيَّاه هَل صليت؟ وَأمره للنَّاس بِالصَّدَقَةِ، يضيق عَن الْقعُود بَين الْخطْبَتَيْنِ، لِأَن زمن هَذَا الْقعُود لَا يطول. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون الرَّاوِي تجوز فِي قَوْله: (قَاعد) . قلت: هَذَا ترويج لكَلَامه، وَنسبَة الرَّاوِي إِلَى ارْتِكَاب الْمجَاز مَعَ عدم الْحَاجة والضرورة. وَقَالَ أَيْضا: قيل: كَانَت هَذِه الْقَضِيَّة قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة، ثمَّ رده بقوله: إِن سليكا مُتَأَخّر الْإِسْلَام جدا، وَتَحْرِيم الْكَلَام مُتَقَدم حجدا، فَكيف يدعى نسخ الْمُتَأَخر بالمتقدم مَعَ ان النّسخ لَا يثبت بِالِاحْتِمَالِ؟ قلت: لم يقل أحد إِن قَضِيَّة سليك كَانَت قبل تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا الْقَائِل: إِن قَضِيَّة سليك كَانَت فِي حَالَة إِبَاحَة الْأَفْعَال فِي الْخطْبَة قبل أَن ينْهَى عَنْهَا، أَلا يرى أَن فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَألْقى النَّاس ثِيَابهمْ، وَقد أجمع الْمُسلمُونَ أَن نزع الرجل ثَوْبه وَالْإِمَام يخْطب مَكْرُوه، وَكَذَلِكَ مس الْحَصَى، وَقَول الرجل لصَاحبه أنصت، كل ذَلِك مَكْرُوه، فَدلَّ ذَلِك على أَن مَا أَمر بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سليكا، وَمَا أَمر بِهِ النَّاس بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ كَانَ فِي حَال إِبَاحَة الْأَفْعَال فِي الْخطْبَة. وَلما أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالإنصات عِنْد الْخطْبَة وَجعل حكم الْخطْبَة كَحكم الصَّلَاة، وَجعل الْكَلَام فِيهَا لَغوا كَمَا كَانَ، جعله لَغوا فِي الصَّلَاة. ثَبت بذلك أَن الصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة، فَهَذَا وَجه قَول الْقَائِل بالنسخ، ومبنى كَلَامه هَذَا على هَذَا الْوَجْه لَا على تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: قيل: اتَّفقُوا على أَن منع الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة يَسْتَوِي فِيهِ من كَانَ دَاخل الْمَسْجِد أَو خَارجه، وَقد اتَّفقُوا على أَن من كَانَ دَاخل الْمَسْجِد يمْتَنع عَلَيْهِ التَّنَفُّل حَال الْخطْبَة، فَلْيَكُن الْآتِي كَذَلِك، قَالَه الطَّحَاوِيّ، وَتعقب بِأَنَّهُ قِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص، فَهُوَ فَاسد. قلت: لم يبنِ الطَّحَاوِيّ كَلَامه ابْتِدَاء على الْقيَاس حَتَّى يكون مَا قَالَه قِيَاسا فِي مُقَابلَة النَّص، وَإِنَّمَا مدعي الْفساد لم يحرر مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ، فَادّعى الْفساد، فَوَقع فِي الْفساد. وتحرير كَلَام الطَّحَاوِيّ أَنه روى أَحَادِيث عَن سُلَيْمَان وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَأبي هُرَيْرَة وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَأَوْس بن أَوْس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، كلهَا تَأمر بالإنصات إِذا خطب الإِمَام، فتدل كلهَا أَن مَوضِع كَلَام الإِمَام لَيْسَ بِموضع للصَّلَاة، فبالنظر إِلَى ذَلِك يَسْتَوِي الدَّاخِل والآتي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute