وَمَعَ هَذَا الَّذِي قَالَه الطَّحَاوِيّ وَافقه عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره من الشَّافِعِيَّة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: قيل: اتَّفقُوا على أَن الدَّاخِل وَالْإِمَام فِي الصَّلَاة تسْقط عَنهُ التَّحِيَّة. وَلَا شكّ أَن الْخطْبَة صَلَاة، فَتسقط عَنهُ فِيهَا أَيْضا، وَتعقب بِأَن الْخطْبَة لَيست صَلَاة من كل وَجه، والداخل فِي حَال الْخطْبَة مَأْمُور بشغل الْبقْعَة بِالصَّلَاةِ قبل جُلُوسه، بِخِلَاف الدَّاخِل فِي حَال الصَّلَاة، فَإِن إِتْيَانه بِالصَّلَاةِ الَّتِي أُقِيمَت تحصل الْمَقْصُود. قلت: هَذَا الْقَائِل لم يدع أَن الْخطْبَة صَلَاة من كل وَجه حَتَّى يرد عَلَيْهِ مَا ذكره من التعقيب، بل قَالَ: هِيَ صَلَاة من حَيْثُ إِن الصَّلَاة قصرت لمكانها، فَمن حَيْثُ هَذَا الْوَجْه يَسْتَوِي الدَّاخِل والآتي، وَيُؤَيّد هَذَا حَدِيث أبي الزَّاهِرِيَّة: (عَن عبد الله بن بشر، قَالَ: كنت جَالِسا إِلَى جنبه يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ: جَاءَ رجل يتخطى رِقَاب النَّاس يَوْم الْجُمُعَة، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إجلس فقد آذيت وآنيت) . أَلا ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره بِالْجُلُوسِ وَلم يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ؟ فَهَذَا خلاف حَدِيث سليك فَافْهَم. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: قيل: اتَّفقُوا على سُقُوط التَّحِيَّة عَن الإِمَام مَعَ كَونه يجلس على الْمِنْبَر، مَعَ أَن لَهُ ابْتِدَاء الْكَلَام فِي الْخطْبَة دون الْمَأْمُوم، فَيكون ترك الْمَأْمُوم التَّحِيَّة بطرِيق الأولى، وَتعقب بِأَنَّهُ أَيْضا قِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص فَهُوَ فَاسد؟ قلت: إِنَّمَا يكون الْقيَاس فِي مُقَابلَة النَّص فَاسِدا إِذا كَانَ ذَلِك النَّص سالما عَن الْمعَارض، وَلم يسلم سليك عَن أُمُور ذَكرنَاهَا، وَرُوِيَ أَيْضا عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، منع الصَّلَاة للداخل وَالْإِمَام يخْطب. أما الصَّحَابَة فهم: عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ وثعلبة ابْن أبي مَالك الْقرظِيّ وَعبد الله بن صَفْوَان بن أُميَّة الْمَكِّيّ وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس.
أما أثر عقبَة فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: الصَّلَاة وَالْإِمَام على الْمِنْبَر مَعْصِيّة. فَإِن قلت: فِي إِسْنَاده عبد الله بن لَهِيعَة وَفِيه مقَال! قلت: وَثَّقَهُ أَحْمد وَكفى بِهِ ذَلِك.
وَأما أثر ثَعْلَبَة بن مَالك فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح: أَن جُلُوس الإِمَام على الْمِنْبَر يقطع الصَّلَاة، وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن يحيى بن سعيد عَن يزِيد بن عبد الله عَن ثَعْلَبَة بن أبي مَالك الْقرظِيّ قَالَ: (أدْركْت عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَكَانَ الإِمَام إِذا خرج تركنَا الصَّلَاة، فَإِذا تكلم تركنَا الْكَلَام) .
وَأما أثر عبد الله بن صَفْوَان فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَن هِشَام بن عُرْوَة قَالَ: (رَأَيْت عبد الله بن صَفْوَان ابْن أُميَّة دخل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة، وَعبد الله بن الزبير يخْطب على الْمِنْبَر. وَعَلِيهِ ازار ورداء وَنَعْلَان وَهُوَ معتم بعمامة، فاستلم الرُّكْن ثمَّ قَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، ثمَّ جلس وَلم يرْكَع.
وَأما أثر عبد الله بن عمر وَعبد الله ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا (عَن عَطاء قَالَ: كَانَ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس يكرهان الْكَلَام وَالصَّلَاة إِذا خرج الإِمَام يَوْم الْجُمُعَة) .
وَأما التابعون فهم: الشّعبِيّ وَالزهْرِيّ وعلقمة وَأَبُو قلَابَة وَمُجاهد.
فأثر الشّعبِيّ عَامر بن شرَاحِيل أخرجه الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ عَن شُرَيْح أَنه: إِذا جَاءَ وَقد خرج الإِمَام لم يصل. وَأثر الزُّهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ فِي: الرجل يدْخل الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب، قَالَ: يجلس وَلَا يسبح.
وَأثر عَلْقَمَة فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَن القَاضِي بكار عَن أبي عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن أبراهيم قَالَ لعلقمة: أَتكَلّم وَالْإِمَام يخْطب وَقد خرج الإِمَام؟ قَالَ: لَا ... إِلَى آخِره.
وَأثر أبي قلَابَة عبد الله بن زيد الْجرْمِي أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ أَنه: جَاءَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فَجَلَسَ وَلم يصل. وَأثر مُجَاهِد أخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ: كره أَن يُصَلِّي وَالْإِمَام يخْطب. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا.
فَهَؤُلَاءِ السادات من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الْكِبَار لم يعْمل أحد مِنْهُم بِمَا فِي حَدِيث سليك، وَلَو علمُوا أَنه يعْمل بِهِ لما تَرَكُوهُ، فَحِينَئِذٍ بَطل اعْتِرَاض هَذَا الْمُعْتَرض.
فَإِن قلت: روى الْجَمَاعَة من حَدِيث أبي قَتَادَة السّلمِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد فليركع رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يجلس) ، فَهَذَا عَام يتَنَاوَل كل دَاخل فِي الْمَسْجِد، سَوَاء كَانَ يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب أَو غَيره. قلت: هَذَا على من دخل الْمَسْجِد فِي حَال تحل فِيهَا الصَّلَاة لَا مُطلقًا، ألَا يرى أَن من دخل الْمَسْجِد عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعند غُرُوبهَا، أَو عِنْد قِيَامهَا فِي كبد السَّمَاء، لَا يُصَلِّي فِي هَذِه الْأَوْقَات للنَّهْي الْوَارِد فِيهِ؟ فَكَذَلِك لَا يُصَلِّي وَالْإِمَام يخْطب يَوْم الْجُمُعَة، لوُرُود وجوب الْإِنْصَات فِيهِ. وَالصَّلَاة حِينَئِذٍ مِمَّا يخل بالانصات. وَقَالَ أَيْضا: قيل: لَا نسلم