أَن يصلى عَلَيْهِ وَلَا يتْرك ذَلِك لبعد الْمسَافَة، فَإِذا صلوا عَلَيْهِ استقبلوا الْقبْلَة وَلم يتوجهوا إِلَى بلد الْمَيِّت إِن كَانَ فِي غير جِهَة الْقبْلَة، وَقد ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى كَرَاهَة الصَّلَاة على الْمَيِّت الْغَائِب، وَزَعَمُوا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْفِعْل، إِذْ كَانَ فِي حكم الْمشَاهد للنجاشي لما رُوِيَ فِي بعض الْأَخْبَار أَنه قد سويت لَهُ الأَرْض حَتَّى يبصر مَكَانَهُ، وَهَذَا تَأْوِيل فَاسد، لِأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا فعل شَيْئا من أَفعَال الشَّرِيعَة كَانَ علينا اتِّبَاعه والأيتساء بِهِ، والتخصيص لَا يعلم إلَاّ بِدَلِيل، وَمِمَّا يبين ذَلِك أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خرج بِالنَّاسِ إِلَى الصَّلَاة، فَصف بهم وصلوا مَعَه، فَعلم أَن هَذَا التَّأْوِيل فَاسد. قلت: هَذَا التشنيع كُله على الْحَنَفِيَّة من غير تَوْجِيه وَلَا تَحْقِيق، فَنَقُول: مَا يظْهر لَك فِيهِ دفع كَلَامه، وَهُوَ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رفع سَرِيره فَرَآهُ، فَتكون الصَّلَاة عَلَيْهِ كميت رَآهُ الإِمَام وَلَا يرَاهُ الْمَأْمُوم. فَإِن قلت: هَذَا يحْتَاج إِلَى نقل يُبينهُ، وَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِمُجَرَّد الِاحْتِمَال. قلت: ورد مَا يدل على ذَلِك، فروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِن أَخَاكُم النَّجَاشِيّ توفّي، فَقومُوا صلوا عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وصفوا خَلفه فَكبر أَرْبعا وهم يظنون أَن جنَازَته بَين يَدَيْهِ، وَجَوَاب آخر: أَنه من بَاب الضَّرُورَة، لِأَنَّهُ مَاتَ بِأَرْض لم تقم فِيهَا عَلَيْهِ فَرِيضَة الصَّلَاة، فَتعين فرض الصَّلَاة عَلَيْهِ لعدم من يُصَلِّي عَلَيْهِ ثمَّة، وَيدل على ذَلِك أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يصل على غَائِب غَيره، وَقد مَاتَ من الصَّحَابَة خلق كثير وهم غائبون عَنهُ، وَسمع بهم فَلم يصل عَلَيْهِم إلَاّ غَائِبا وَاحِدًا ورد أَنه طويت لَهُ الأَرْض حَتَّى حَضَره وَهُوَ: مُعَاوِيَة بن مُعَاوِيَة الْمُزنِيّ، روى حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) وَكتاب (مُسْند الشاميين) : حَدثنَا عَليّ بن سعيد الرَّازِيّ حَدثنَا نوح بن عُمَيْر بن حوى السكْسكِي حَدثنَا بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن مُحَمَّد بن زِيَاد الْأَلْهَانِي (عَن أبي أُمَامَة، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بتبوك فَنزل عَلَيْهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن مُعَاوِيَة بن مُعَاوِيَة الْمُزنِيّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، أَتُحِبُّ أَن تطوى لَك الأَرْض فَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟ قَالَ: نعم، فَضرب بجناحه على الأَرْض وَرفع لَهُ سَرِيره فصلى عَلَيْهِ وَخَلفه صفان من الْمَلَائِكَة، فِي كل صف سَبْعُونَ ألف ملك، ثمَّ رَجَعَ، وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجبريل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: بِمَ أدْرك هَذَا؟ قَالَ: بحبه سُورَة: قل هُوَ الله أحد، وقراءته إِيَّاهَا جاثيا وذاهبا وَقَائِمًا وَقَاعِدا وعَلى كل حَال) . انْتهى. فَإِن قلت: قد صلى على اثْنَيْنِ أَيْضا وهما غائبان وهما زيد بن حَارِثَة وجعفر بن أبي طَالب، ورد عَنهُ أَنه كشف لَهُ عَنْهُمَا أخرجه الْوَاقِدِيّ فِي كتاب (الْمَغَازِي) فَقَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن صَالح عَن عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة، وحَدثني عبد الْجَبَّار بن عمَارَة عَن عبد الله بن أبي بكر، قَالَا: لما التقى النَّاس بمؤتة جلس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمِنْبَر وكشف لَهُ مَا بَينه وَبَين الشَّام، فَهُوَ ينظر إِلَى معتركهم، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَخذ الرَّايَة زيد بن حَارِثَة فَمضى حَتَّى اسْتشْهد، وَصلى عَلَيْهِ ودعا لَهُ: وَقَالَ: اسْتَغْفرُوا لَهُ وَقد دخل الْجنَّة وَهُوَ يسْعَى ثمَّ أَخذ الرَّايَة جَعْفَر بن أبي طَالب فَمضى حَتَّى اسْتشْهد، فصلى عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودعا لَهُ، وَقَالَ: اسْتَغْفرُوا لَهُ وَقد دخل الْجنَّة، فَهُوَ يطير فِيهَا بجناحيه حَيْثُ شَاءَ. قلت: هُوَ مُرْسل من الطَّرِيقَيْنِ الْمَذْكُورين، والمرسل لَيْسَ بِحجَّة، على أَنهم يَقُولُونَ: فِي الْوَاقِدِيّ مقَال، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) فِي معرض التحامل: وَمن ادّعى أَن الأَرْض طويت لَهُ حَتَّى شَاهده لَا دَلِيل عَلَيْهِ، وَإِن كَانَت الْقُدْرَة صَالِحَة لذَلِك. قلت: كَأَنَّهُ لم يطلع على مَا رَوَاهُ ابْن حبَان وَالطَّبَرَانِيّ، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن، وَوَقع فِي كَلَام ابْن بطال تَخْصِيص ذَلِك بالنجاشي، فَقَالَ: بِدَلِيل إطباق الْأمة على ترك الْعَمَل بِهَذَا الحَدِيث، قَالَ: وَلم أجد لأحد من الْعلمَاء إجَازَة الصَّلَاة على الْغَائِب إلَاّ مَا ذكره ابْن زيد عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا استؤذن أَنه غرق أَو قتل أَو أكله السبَاع وَلم يُوجد مِنْهُ شَيْء صلى عَلَيْهِ، كَمَا فعل بالنجاشي، وَبِه قَالَ ابْن حبيب، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أَكثر أهل الْعلم يَقُولُونَ: إِن ذَلِك مَخْصُوص بِهِ، وَأَجَازَهُ بَعضهم إِذا كَانَ فِي يَوْم الْمَوْت أَو قريب مِنْهُ، وَفِي (المُصَنّف) عَن الْحسن إِنَّمَا دَعَا لَهُ وَلم يصل.
الْوَجْه الْخَامِس: فِي أَن التَّكْبِير على الْجِنَازَة أَرْبَعَة، وَصرح بذلك فِي الحَدِيث وَهُوَ آخر مَا اسْتَقر عَلَيْهِ أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن أبي ليلى: يكبر خمْسا، وَإِلَيْهِ ذهب الشِّيعَة. وَقيل: ثَلَاثًا، قَالَه بعض الْمُتَقَدِّمين، وَقيل: أَكْثَره سبع وَأقله ثَلَاث، ذكره القَاضِي أَبُو مُحَمَّد، وَقيل: سِتّ، ذكره ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن أَحْمد: لَا ينقص من أَربع وَلَا يُزَاد على سبع. وَقَالَ ابْن