للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

اللّغَوِيّ، وَهُوَ التَّصْدِيق كَمَا فسرناه الْآن، والترجمة غير مترتبة عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مترتبة على مُبَاشرَة عمل هُوَ سَبَب لغفران مَا تقدم من ذَنبه، وَهُوَ قيام لَيْلَة الْقدر هَهُنَا، ومباشرة مثل هَذَا الْعَمَل شُعْبَة من شعب الْإِيمَان فَافْهَم. ثمَّ إِن الْكرْمَانِي جوز انتصابهما على التَّمْيِيز، وعَلى الْعلَّة أَيْضا بعد أَن قَالَ: التَّمْيِيز وَالْمَفْعُول لَهُ لَا يدلان على أَنه من الْإِيمَان بِتَأْوِيل أَن: من، للابتداء، فَمَعْنَاه: أَن الْقيام منشؤه الْإِيمَان، فَيكون للْإيمَان أَو من جِهَة الْإِيمَان. قلت: وُقُوع كل مِنْهُمَا بعيد، أما التَّمْيِيز فَإِنَّهُ يرفع الْإِبْهَام المستقر عَن ذَات مَذْكُورَة أَو مقدرَة، وكل مِنْهُمَا هَهُنَا مُنْتَفٍ، أما الأول: فَلِأَنَّهُ يكون عَن ذَات مُفْردَة مَذْكُورَة، وَذَلِكَ الْمُفْرد يكون مُقَدرا غَالِبا. وَأما الثَّانِي: فَإِنَّهُ لَا إِبْهَام فِي لَفْظَة: يقم، وَلَا فِي إِسْنَاده إِلَى فَاعله. وَأما النصب على الْعلَّة فَإِنَّهُ مَا فعل لأَجله فعل مَذْكُور، وَهَهُنَا الْقيام لَيْسَ لأجل عِلّة الْإِيمَان، وَإِنَّمَا الْإِيمَان سَبَب للْقِيَام. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: شَرط التَّمْيِيز أَن يَقع موقع الْفَاعِل نَحْو: طَابَ زيد نفسا قلت: اطراد هَذَا الشَّرْط مَمْنُوع، وَلَئِن سلمنَا فَهُوَ أَعم من أَن يكون فَاعِلا بِالْفِعْلِ، أَو بِالْقُوَّةِ، كَمَا يؤول: طَار عَمْرو فَرحا، بِأَن المُرَاد طيَّره الْفَرح. فَهُوَ فِي الْمَعْنى إِقَامَة الْإِيمَان. قلت: هَذَا التَّمْثِيل لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن نِسْبَة الطيران إِلَى عَمْرو فِيهِ إِبْهَام، وَفَسرهُ بقوله: فَرحا، وتأويله: طيره الْفَرح كَمَا فِي قَوْلك طَابَ زيد نفسا تَقْدِيره: طَابَ نفس زيد، وَلَيْسَ كَذَلِك. قَوْله: (من يقم لَيْلَة الْقدر) لِأَنَّهُ إِبْهَام فِي نِسْبَة الْقيام إِلَيْهِ وَلَا فِي نفس الْقيام، وتأويله بقوله: إِقَامَة الْإِيمَان، لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن الْإِيمَان لَيْسَ بفاعل لَا بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْقُوَّةِ. قَوْله: (غفر لَهُ) ، جَوَاب الشَّرْط، وَهَذَا كَمَا ترى وَقع مَاضِيا، وَفعل الشَّرْط مضارعا، والنحاة يستضعفون مثل ذَلِك. وَمِنْهُم من مَنعه إِلَّا فِي ضَرُورَة شعر، وأجازوا ضِدّه، وَهُوَ أَن يكون فعل الشَّرْط مَاضِيا وَالْجَوَاب مضارعا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا نوف إِلَيْهِم} (هود: ١٥) وَجَمَاعَة مِنْهُم جوزوا ذَلِك مُطلقًا، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، وَبقول عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، فِي أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنهُ: مَتى يقم مقامك رق، وَالصَّوَاب: مَعَهم، لِأَنَّهُ وَقع فِي كَلَام أفْصح النَّاس، وَفِي كَلَام عَائِشَة الفصيحة. وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى: {إِن نَشأ ننزل عَلَيْهِم من السَّمَاء آيَة فظلت} (الشُّعَرَاء: ٤) لِأَن قَوْله: فظلت، بِلَفْظ الْمَاضِي، وَهُوَ تَابع للجواب، وتابع الْجَواب جَوَاب! قلت: لَا نسلم أَن تَابع الْجَواب جَوَاب، بل هُوَ فِي حكم الْجَواب، وَفرق بَين الْجَواب وَحكم الْجَواب. وَقَوله (ظلت) عطف على قَوْله: ننزل، وَحقّ الْمَعْطُوف صِحَة حُلُوله مَحل الْمَعْطُوف عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَعِنْدِي فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ نظر، أَرَادَ بِهِ اسْتِدْلَال المجوزين بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، لأنني أَظُنهُ من تصرف الروَاة، فقد رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن مَيْمُون عَن أبي الْيَمَان، شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، فَلم يغاير بَين الشَّرْط وَالْجَزَاء، بل قَالَ: من يقم لَيْلَة الْقدر يغْفر لَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي الْمُسْتَخْرج عَن سُلَيْمَان، وَهُوَ الطَّبَرَانِيّ، عَن أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب بن نجدة عَن أبي الْيَمَان وَلَفظه: (لَا يقوم أحد لَيْلَة الْقدر فيوافقها إِيمَانًا واحتسابا إلَاّ غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) . قلت: لقَائِل أَن يَقُول: لم لَا يجوز أَن يكون تصرف الروَاة فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيّ، وَأَن مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ بالمغايرة بَين الشَّرْط وَالْجَزَاء هُوَ اللَّفْظ النَّبَوِيّ، بل الْأَمر كَذَا، لِأَن رِوَايَة مُحَمَّد بن عَليّ بن مَيْمُون عَن أبي الْيَمَان لَا تعادل رِوَايَة البُخَارِيّ عَن أبي الْيَمَان: وَلَا رِوَايَة أَحْمد بن عبد الْوَهَّاب بن نجدة عَن أبي الْيَمَان مثل رِوَايَة البُخَارِيّ عَنهُ، وَيُؤَيّد هَذَا رِوَايَة مُسلم أَيْضا، وَلَفظ البُخَارِيّ: (من يقم لَيْلَة الْقدر فيوافقها أرَاهُ إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) ، وَلَفظ حَدِيث الطَّبَرَانِيّ يُنَادي بِأَعْلَى صَوته بِوُقُوع التَّغْيِير وَالتَّصَرُّف من الروَاة فِيهِ، لِأَن فِيهِ النَّفْي وَالْإِثْبَات مَوضِع الشَّرْط وَالْجَزَاء فِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَمُسلم. قَوْله: (من ذَنبه) يتَعَلَّق بقوله: (غفر) أَي: غفر من ذَنبه مَا تقدم، وَيجوز أَن تكون: من، البيانية لما تقدم. فَإِن قلت: (مَا تقدم) مَا موقعه من الْإِعْرَاب؟ قلت: النصب على المفعولية على الْوَجْه الأول، وَالرَّفْع على أَنه مفعول نَاب عَن الْفَاعِل على الْوَجْه الثَّانِي، فَافْهَم.

الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: لِمَ قَالَ هَهُنَا: من يقم، بِلَفْظ الْمُضَارع، وَقَالَ فِيمَا بعده: من قَامَ رَمَضَان وَمن صَامَ رَمَضَان، بالماضي؟ وَأجِيب: بِأَن قيام رَمَضَان وصيامه مُحَقّق الْوُقُوع، فجَاء بِلَفْظ يدل عَلَيْهِ بِخِلَاف قيام لَيْلَة الْقدر، فَإِنَّهُ غير مُتَيَقن، فَلهَذَا ذكره بِلَفْظ الْمُسْتَقْبل. وَمِنْهَا مَا قيل: مَا النُّكْتَة فِي وُقُوع الْجَزَاء بالماضي مَعَ أَن الْمَغْفِرَة فِي زمن الِاسْتِقْبَال؟ وَأجِيب: للإشعار بِأَنَّهُ مُتَيَقن الْوُقُوع مُتَحَقق الثُّبُوت، فضلا من الله تَعَالَى على عباده. وَمِنْهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>