يخْتَلى بهَا الخلا، والمخلاة وعَاء يخْتَلى فِيهِ للدابة، ثمَّ سمى كل مَا يعتلف فِيهِ مِمَّا يعلق فِي رَأسهَا مخلاة، والخلاء، بِالْمدِّ: الْموضع الْخَالِي وَأَيْضًا مصدر من خلا يَخْلُو قَوْله: (وَلَا يعضد شَجَرهَا) أَي: لَا يقطع، يُقَال: عضد واستعضذ بِمَعْنى كَمَا يُقَال علا واستعلى قَالَ القَاضِي وَقع فِي رِوَايَة (وَلَا يعضد شجرائها) وَهُوَ الشّجر وَقَالَ الطَّبَرِيّ معنى لَا يعضد لَا يفْسد وَيقطع من عدد الرجل إِذا أصَاب عضده بِسوء وَفِي الموعب عضدت الشجرا عضده عضد مثل ضَربته إِذا قطعته وَفِي الْمُحكم الشَّيْء معضود وعضيد قَوْله (أَلا لمعرف) بِضَم الْمِيم وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة وَهُوَ الَّذِي يعرفهَا حَتَّى يَجِيء صَاحبهَا وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ (وَلَا يلتقط لقطته إِلَّا من عرفهَا) وَفِي لفظ (وَلَا يحل لقطتهَا إِلَّا لِمُنْشِد) والمنشد هُوَ الْمُعَرّف والناشد هُوَ الطَّالِب يُقَال ناشدت الضَّالة إِذا طلبتها فَإِذا عرفتها قلت أنشدتها وأصل الإنشاد رفع الصَّوْت وَمِنْه إنساد الشّعْر قَوْله (لصاغتنا) أَصله الصوغة جمع صائغ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن مَكَّة حرَام يحرم فِيهَا أَشْيَاء مَا يحل فِي غَيرهَا من بِلَاد الله تَعَالَى، فَإِن قلت: الحَدِيث هُنَا (حرم الله مَكَّة) ، وَفِي حَدِيث صَحِيح: (أَن إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرم مَكَّة) . قلت: يَعْنِي بلغ تَحْرِيم الله تَعَالَى لَهَا، فَكَانَ التَّحْرِيم على لِسَانه، فنسب إِلَيْهِ وَحكى الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره الْخلاف بَين الْعلمَاء فِي ابْتِدَاء تَحْرِيم مَكَّة، فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهَا مَا زَالَت مُحرمَة وَأَنه خَفِي تَحْرِيمهَا فأظهره إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وأشاعه، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن ابْتِدَاء تَحْرِيمهَا من زمن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَنَّهَا كَانَت قبل ذَلِك غير مُحرمَة كَغَيْرِهَا من الْبِلَاد، وَإِن معنى: حرمهَا الله يَوْم خلق السَّمَوَات، أَنه قدر ذَلِك فِي الْأَزَل أَنه سيحرمها على لِسَان إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كتب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سيحرم مَكَّة بِأَمْر الله تَعَالَى.
وَفِيه: (أحلّت لي سَاعَة من نَهَار) ، احْتج بِهِ أَبُو حنيفَة أَن مَكَّة فتحت عنْوَة لَا صلحا، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فتحهَا بِالْقِتَالِ. وَبِه قَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَسَيَجِيءُ فِي حَدِيث أبي شُرَيْح الْعَدوي فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهَا فَقولُوا لَهُ: إِن الله أذن لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يَأْذَن لَك، وَإِنَّمَا أذن لَهُ سَاعَة من النَّهَار، وَذهب الشَّافِعِي وَجَمَاعَة إِلَى أَنَّهَا فتحت صلحا، وتأولوا الحَدِيث على أَنه أُبِيح لَهُ الْقِتَال لَو احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَلَو احْتَاجَ إِلَيْهِ لقَاتل، وَلكنه بِمَ يحْتَج إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَهَذَا التَّأْوِيل يبعده قَوْله: لقِتَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي فِي حَدِيث أبي شُرَيْح فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وجود قتال ظَاهرا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: إِن بَعْضهَا فتح صلحا، وَبَعضهَا عنْوَة، لِأَن الْمَكَان الَّذِي دخل مِنْهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَقع فِيهِ الْقِتَال، وَإِنَّمَا وَقع فِي غير الْمَكَان الَّذِي دخل مِنْهُ.
وَفِيه: لَا يجوز اختلاء خلا مَكَّة هَذَا مِمَّا ينْبت بِنَفسِهِ بِالْإِجْمَاع. وَأما الَّذِي يزرعه النَّاس نَحْو الْبُقُول والخضراوات، والفصيل فَإِنَّهَا يجوز قطعهَا. وَاخْتلف فِي الرَّعْي فِيمَا أَنْبَتَهُ الله من خَلاهَا، فَمَنعه أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَأَجَازَهُ أَبُو يُوسُف وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع على تَحْرِيم قطع شجر الْحرم، وَقَالَ الإِمَام: اخْتلف النَّاس فِي قطع شجر الْحرم: هَل فِيهِ جَزَاء أم لَا؟ فَعِنْدَ مَالك: لَا جَزَاء فِيهِ، وَعند أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: فِيهِ الْجَزَاء. قلت: هَذَا فِيمَا لم يغرسه الْآدَمِيّ من الشّجر. وَأما مَا غرسه الْآدَمِيّ فَلَا شَيْء فِيهِ، وخكى الْخطابِيّ أَن مَذْهَب الشَّافِعِي منع قطع مَا غرسه الْآدَمِيّ من شجر الْبَوَادِي ونماه وَأمه، وَغَيره مِمَّا أَنْبَتَهُ الله سَوَاء، وَاخْتلف قَوْله فِي جَزَاء الشّجر، فَعِنْدَ الشَّافِعِي: فِي الدوحة بقرة، وَفِيمَا دونهَا شَاة. وَعند أبي حنيفَة: يُؤْخَذ مِنْهُ قيمَة مَا قطع يشترى بِهِ هدى، فَإِن لم يبلغ ثمنه تصدق بِهِ بنضف صَاع لكل مِسْكين. وَقَالَ الشَّافِعِي: فِي الْخشب وَنَحْوه قيمتهَا بَالِغَة مَا بلغت. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: فِيهَا قيمتهَا، وَالْمحرم والحلال فِي ذَلِك سَوَاء. وَاخْتلفُوا فِي أَخذ السِّوَاك من شجر الْحرم: فَعَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَعَمْرو بن دِينَار أَنهم رخصوا فِي ذَلِك، وَحكى أَبُو ثَوْر ذَلِك عَن الشَّافِعِي، وَكَانَ عَطاء يرخص فِي أَخذ ورق السنا يستمشي بِهِ وَلَا ينْزع من أَصله، وَرخّص فِيهِ عَمْرو بن دِينَار.
وَفِيه: دَلِيل على أَن الشّجر المؤذي كالشوك لَا يقطع من الْحرم لإِطْلَاق قَوْله: (وَلَا يعضد شَجَرهَا) ، وَهُوَ اخْتِيَار أبي سعيد الْمُتَوَلِي من الشَّافِعِيَّة: وَذهب جُمْهُور أَصْحَاب الشَّافِعِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute