للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَقَالَ الْخطابِيّ: إِمَّا أَن يُرَاد بهما حِكَايَة أقاويل النَّاس، كَمَا يُقَال: قَالَ فلَان كَذَا، وَقيل لَهُ: كَذَا، من بَاب مَا لَا يَعْنِي. وَأما مَا كَانَ من أَمر الدّين يَنْقُلهُ بِلَا حجَّة وَبَيَان يُقَلّد مَا يسمعهُ وَلَا يحْتَاط فِيهِ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: المُرَاد بِهِ حِكَايَة شَيْء لَا تعلم صِحَّته فَإِن الحاكي يَقُول: قيل وَقَالَ: وَعَن مَالك: هُوَ الْإِكْثَار من الْكَلَام والإرجاف، نَحْو قَول الْقَائِل: أعطي فلَان كَذَا وَمنع من كَذَا، أَو الْخَوْض فِيمَا لَا يَعْنِي. وَقَالَ ابْن التِّين: لَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا: أَن يُرَاد بِهِ حِكَايَة أَقْوَال النَّاس وأحاديثهم والبحث عَنْهَا لينمي فَيَقُول: قَالَ فلَان كَذَا وَفُلَان كَذَا، مِمَّا لَا يجر خيرا، إِنَّمَا هُوَ ولوع وشغب، وَهُوَ من التَّجَسُّس الْمنْهِي عَنهُ. وَالثَّانِي: أَن يكون فِي أَمر الدّين فَيَقُول: قيل لَهُ فِيهِ كَذَا، وَقَالَ فلَان فيقلد وَلَا يحْتَاط بمواضع الِاحْتِيَاط بالحجج. قَوْله: (وإضاعة المَال) ، هُوَ رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: (إِضَاعَة الْأَمْوَال) ، وَهُوَ أَن يتْركهُ من غير حفظ لَهُ فيضيع، أَو يتْركهُ حَتَّى يفْسد، أَو يرميه إِذا كَانَ يَسِيرا كبرا عَن تنَاوله، أَو بِأَن يرضى بِالْغبنِ، أَو يُنْفِقهُ فِي الْبناء واللباس والمطعم بإسراف، أَو يُنْفِقهُ فِي الْمعاصِي، أَو يُسلمهُ لخائن أَو مبذر، أَو يموه الْأَوَانِي بِالذَّهَب أَو يطرز الثِّيَاب بِهِ، أَو يذهِّب سقوف الْبَيْت، فَإِنَّهُ من التضييع الْفَاحِش لِأَنَّهُ لَا يُمكن تخليصه مِنْهُ وإعادته إِلَى أَصله، وَمِنْه قسْمَة مَا لَا ينْتَفع بقسمته كاللؤلؤة، وَمِنْه الصَّدَقَة وإكثارها وَعَلِيهِ دين لَا يَرْجُو لَهُ وَفَاء دينه، وَمِنْه سوء الْقيام على مَا يملكهُ كالرقيق إِذا لم يتعهده ضَاعَ، وَمِنْه أَن يتخلى الرجل من كل مَاله وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ غير قوي على الصَّبْر والإطاقة، وَقد يحْتَمل أَن يؤول معنى الإضاعة على الْعَكْس مِمَّا تقدم بِأَن يُقَال: إضاعته: حَبسه عَن حَقه وَالْبخل بِهِ على أَهله كَمَا قَالَ الشَّاعِر:

(وَمَا ضَاعَ مَال أورث الْمجد أَهله ... وَلَكِن أَمْوَال الْبَخِيل تضيع)

وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِضَاعَة المَال تُؤدِّي إِلَى الْفقر الَّذِي يخْشَى مِنْهُ الْفِتْنَة، وَكَأن الشَّارِع، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتَعَوَّذ من الْفقر وفتنته. وَقَالَ الْمُهلب فِي إِضَاعَة المَال: يُرِيد السَّرف فِي إِنْفَاقه وَإِن كَانَ فِيمَا يحل، أَلا ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رد تَدْبِير المعدم لِأَنَّهُ أسرف على مَاله فِيمَا يحل ويؤجر فِيهِ، لكنه أضاع نَفسه، وأجره فِي نَفسه آكِد من أجره فِي غَيره. قَوْله: (وَكَثْرَة السُّؤَال) ، أما السُّؤَال إِمَّا أَن يكون من سُؤال النَّاس أَمْوَالهم والاستكثار مِنْهُ، أَو سُؤال الْمَرْء عَمَّا نهي عَنهُ من الْمُتَشَابه الَّذِي تعبدنا بِظَاهِرِهِ، أَو السُّؤَال من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أُمُور لم يكن لَهُم بهَا حَاجَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْمسَائِل فِي كتاب الله تَعَالَى على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا مَحْمُود كَقَوْلِه: {يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ} (الْبَقَرَة: ٥١٢ و ٩١٢) . وَنَحْوه من الإشياء الْمُحْتَاج إِلَيْهَا فِي الدّين، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} (النَّحْل: ٣٤، الْأَنْبِيَاء: ٧) . وَالْآخر مَذْمُوم كَقَوْلِه: {يَسْأَلُونَك عَن الرّوح} (الْإِسْرَاء: ٥٨) . وَنَحْوه مِمَّا لَا ضَرُورَة فِيهِ لَهُم إِلَى علمه، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تَبْدُ لكُم تَسُؤْكُمْ} (الْمَائِدَة: ١٠١) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: يحْتَمل إِن يُرَاد بِكَثْرَة السُّؤَال سُؤال الْإِنْسَان عَن حَاله وتفاصيل أمره، لِأَنَّهُ يتَضَمَّن حُصُول الْحَرج فِي حق المسؤول عَنهُ، فَإِنَّهُ لَا يُرِيد إخْبَاره بأحواله، فَإِن أخبرهُ شقّ عَلَيْهِ وَإِن أهمل جَوَابه ارْتكب سوء الْأَدَب. وَيُقَال: فِي كَثْرَة السُّؤَال وَجْهَان ذكرا عَن مَالك: الأول: سُؤال سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ قَالَ: (ذروني مَا تركتكم) . وَالثَّانِي: سُؤال النَّاس، وَهُوَ الَّذِي فهمه البُخَارِيّ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن التِّين فِيهِ وُجُوه: أَحدهَا: التَّعَرُّض لما فِي أَيدي النَّاس من الحطام بالحرص والشره، وَهُوَ تَأْوِيل البُخَارِيّ. ثَانِيهَا: أَن يكون فِي سُؤال الْمَرْء عَمَّا نهى عَنهُ من متشابه الْأُمُور على مَذْهَب أهل الزيغ وَالشَّكّ وابتغاء الْفِتْنَة. ثَالِثهَا: مَا كَانُوا يسْأَلُون الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الشَّيْء من الْأُمُور من غير حَاجَة بهم إِلَيْهِ فتنزل الْبلوى بهم، كالسائل عَمَّن يجد مَعَ امْرَأَته رجلا أَشد النَّاس جرما فِي الْإِسْلَام من سَأَلَ عَن أَمر لم يكن حَرَامًا فَحرم من أجل مَسْأَلته.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الدّلَالَة على الْحجر، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب الْحجر على الْبَالِغ المضيع لمَاله، فجمهور الْعلمَاء يُوجب الْحجر عَلَيْهِ صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَقَالَ النَّخعِيّ وَابْن سِيرِين وبعدهما أَبُو حنيفَة وَزفر: لَا حجر على الْبَالِغ الحَدِيث الَّذِي يخدع فِي الْبيُوع وَلم يمنعهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من التَّصَرُّف. وَفِيه: دَلِيل على فضل الكفاف على الْفقر والغنى، لِأَن ضيَاع المَال يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَة بالفقر وَكَثْرَة السُّؤَال، وَرُبمَا يخْشَى من الْغنى الْفِتْنَة، قَالَ تَعَالَى: {كلا إِن الْإِنْسَان

<<  <  ج: ص:  >  >>