فِي (الْمسند) مَا يَقْتَضِي أَنه أرسل شعر الشق الْأَيْمن مَعَ أنس إِلَى أمه أم سليم امْرَأَة أبي طَلْحَة فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: لما حلق رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَأسه بمنى أَخذ شقّ رَأسه الْأَيْمن بِيَدِهِ، فَلَمَّا فرغ ناولني فَقَالَ: يَا أنس إنطلق بِهَذَا إِلَى أم سليم، قَالَ: فَلَمَّا رأى النَّاس مَا خصنا بِهِ تنافسوا فِي الشق الآخر، هَذَا يَأْخُذ الشَّيْء، وَهَذَا يَأْخُذ الشَّيْء. قَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَكَأن الْمُحب الطَّبَرِيّ رجح رِوَايَة تَفْرِقَة الشق الْأَيْمن بِكَثْرَة الروَاة، فَإِن حَفْص بن غياث وَعبد الْأَعْلَى اتفقَا على ذَلِك عَن هِشَام، وَخَالَفَهُمَا ابْن عُيَيْنَة وَحده، ثمَّ قَالَ الشَّيْخ: وَقد ترجح تَفْرِقَة الإيسر بِكَوْنِهِ مُتَّفقا عَلَيْهِ، وتفرقة الْأَيْمن من أَفْرَاد مُسلم، فقد وَقع عِنْد البُخَارِيّ من رِوَايَة ابْن عون عَن ابْن سِيرِين (عَن أنس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما حلق كَانَ أَبُو طَلْحَة أول من أَخذ من شعره) ، فَهَذَا يدل على أَن الَّذِي أَخذه أَبُو طَلْحَة الْأَيْمن، وَإِن كَانَ يجوز أَن يُقَال: أَخذه ليفرقه، فَالظَّاهِر أَنه إِنَّمَا أَرَادَ الَّذِي أَخذه أَبُو طَلْحَة لنَفسِهِ، فقد اتّفق ابْن عون عَن هِشَام من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَنهُ، على أَن أَبَا طَلْحَة أَخذ الشق الْأَيْمن، وَاخْتلف فِيهِ على هِشَام، فَكَانَت الرِّوَايَة الَّتِي لَا اخْتِلَاف فِيهَا أولى بِالْقبُولِ، وَالله أعلم.
النَّوْع الثَّانِي: أَن فِيهِ مَا يدل على وجوب اسْتِيعَاب حلق الرَّأْس، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حلق جَمِيع رَأسه، وَقَالَ: (خُذُوا عني مَنَاسِككُم) ، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، كالمسح فِي الْوضُوء، وَقَالَ مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ: يجب حلق أَكثر الرَّأْس، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة، وَقَالَ عَطاء: يبلغ بِهِ إِلَى العظمين اللَّذين عِنْد مُنْتَهى الصدغين، لِأَنَّهُمَا مُنْتَهى نَبَات الشّعْر، ليَكُون مستوعبا لجَمِيع رَأسه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجب حلق ربع الرَّأْس وَقَالَ أَبُو يُوسُف: يجب حلق نصف الرَّأْس، وَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه يَكْفِي حلق ثَلَاث شَعرَات، وَلم يكتف بشعرة أَو بعض شَعْرَة، كَمَا اكْتفى بذلك فِي مسح الرَّأْس فِي الْوضُوء.
النَّوْع الثَّالِث: أَنه يسْتَدلّ بِهِ على أَفضَلِيَّة الْحلق على التَّقْصِير، وسنبينه فِي الحَدِيث الْآتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
النَّوْع الرَّابِع: أَن فِيهِ طَهَارَة شعر الْآدَمِيّ، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء، وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي، وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو جَعْفَر التِّرْمِذِيّ مِنْهُم، فخصص الطَّهَارَة بِشعرِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذهب إِلَى نَجَاسَة شعر غَيره.
النَّوْع الْخَامِس: فِيهِ التَّبَرُّك بِشعرِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَغير ذَلِك من آثاره بِأبي وَأمي وَنَفْسِي هُوَ، وَقد روى أَحْمد فِي (مُسْنده) بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن سِيرِين أَنه قَالَ: فَحَدَّثَنِيهِ عُبَيْدَة السَّلمَانِي يُرِيد: هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لِأَن يكون عِنْدِي شَعْرَة مِنْهُ أحب إِلَيّ من كل بَيْضَاء وصفراء على وَجه الأَرْض. وَفِي بَطنهَا، وَقد ذكر غير وَاحِد أَن خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ فِي قلنسوته شَعرَات من شعره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلذَلِك كَانَ لَا يقدم على وَجه إلَاّ فتح لَهُ، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا ذكره الملا فِي (السِّيرَة) : أَن خَالِدا سَأَلَ أَبَا طَلْحَة حِين فرق شعره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين النَّاس أَن يُعْطِيهِ شعر ناصيته، فَأعْطَاهُ إِيَّاه، فَكَانَ مقدم ناصيته مناسبا لفتح كل مَا أقدم عَلَيْهِ.
النَّوْع السَّادِس: أَن فِيهِ أَنه لَا بَأْس باقتناء الشّعْر الْبَائِن من الْحَيّ وَحفظه عِنْده، وَأَنه لَا يجب دَفنه، كَمَا قَالَ بَعضهم: إِنَّه يجب دفن شُعُور بني آدم، أَو يسْتَحبّ، وَذكر الرَّافِعِيّ فِي سنَن الْحلق، فَقَالَ: وَإِذا حلق فالمستحب أَن يبْدَأ بالشق الْأَيْمن ثمَّ بالأيسر، وَأَن يكون مُسْتَقْبل الْقبْلَة، وَإِنَّمَا يكبر بعد الْفَرَاغ، وَأَن يدْفن شعره. وَزَاد الْمُحب الطَّبَرِيّ فَذكر من سنَنه صَلَاة رَكْعَتَيْنِ بعده، فسننه إِذا خَمْسَة.
النَّوْع السَّابِع: فِيهِ مواساة الإِمَام وَالْكَبِير بَين أَصْحَابه فِيمَا يقسمهُ بَينهم، وَإِن فَاضل بَينهم لأمر اقْتضى ذَلِك.
النَّوْع الثَّامِن: فِيهِ أَنه لَا بَأْس بتفضيل بَعضهم على بعض فِي الْقِسْمَة لأمر يرَاهُ وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاده، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خصص أَبَا طَلْحَة وَأم سليم بِشعر أحد الشقين، كَمَا تقدم.
النَّوْع التَّاسِع: أَن الحالق الْمَذْكُور اخْتلف فِي تَعْيِينه، فَقَالَ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) : زَعَمُوا أَنه معمر بن عبد الله، وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه الصَّحِيح الْمَشْهُور، قَالَ البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ الْكَبِير) : قَالَ عَليّ بن عبد الله: حَدثنَا عبد الْأَعْلَى حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عبد الرَّحْمَن بن عقبَة، مولى معمر، عَن معمر الْعَدوي قَالَ: (كنت أرجِّل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قضى حجه، وَكَانَ يَوْم النَّحْر، جلس يحلق رَأسه، فَرفع رَأسه فَنظر فِي وَجْهي، فَقَالَ: يَا معمر! أمكنك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من شحمة أُذُنه، وَفِي يدك الموسى، فَقَالَ: ذَاك من الله تَعَالَى عَليّ وفضله. قَالَ: نعم؟ فحلقته) ، وَقيل: إِن الَّذِي حلق رَأسه