للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَالرَّابِع: الْوَقْف. وَقَالَ الْمَازرِيّ: المشتبهات الْمَكْرُوه لَا يُقَال فِيهِ حَلَال وَلَا حرَام بَين. وَقَالَ غَيره: فَيكون الْوَرع تَركه، وَقَالَ الْخطابِيّ: من أَمْثِلَة المتشابهات مُعَاملَة من كَانَ فِي مَاله شُبْهَة، أَو خالطه رَبًّا، فَهَذَا يكره مُعَامَلَته. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا شكّ أَن ثَمَّ أموراً جلية التَّحْرِيم، وأموراً جلية التَّحْلِيل، وأموراً مترددة بَين الْحل وَالْحُرْمَة، وَهُوَ الَّذِي تتعارض فِيهَا الْأَدِلَّة، فَهِيَ المشتبهات، وَاخْتلف فِي حكمهَا. فَقيل: حرَام لِأَنَّهَا توقع فِي الْحَرَام، وَقيل: مَكْرُوهَة، والورع تَركهَا. وَقيل: لَا يُقَال فِيهَا وَاحِد مِنْهُمَا، وَالصَّوَاب الثَّانِي، لِأَن الشَّرْع أخرجهَا من الْحَرَام فَهِيَ مرتاب فِيهَا. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك) ، فَهَذَا هُوَ الْوَرع. وَقَالَ بعض النَّاس: إِنَّهَا حَلَال يتورع عَنْهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَيست هَذِه عبارَة صَحِيحَة، لِأَن أقل مَرَاتِب الْحَلَال ان يَسْتَوِي فعله وَتَركه، فَيكون مُبَاحا، وَمَا كَانَ كَذَلِك لَا يتَصَوَّر فِيهِ الْوَرع، فَإِنَّهُ إِن ترجح أحد طَرفَيْهِ على الآخر خرج عَن ان يكون مُبَاحا، وَحِينَئِذٍ: إِمَّا أَن يكون تَركه راجحاً على فعله، وَهُوَ الْمَكْرُوه، أَو فعله راجحاً على تَركه وَهُوَ الْمَنْدُوب، فَأَما مثل مَا تقدم مِمَّا يكون دَلِيله غير خَال عَن الِاحْتِمَال الْبَين: كَجلْد الْميتَة بعد الدّباغ، فَإِنَّهُ غير طَاهِر على الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك، فَلَا يسْتَعْمل فِي شَيْء من الْمَائِعَات لِأَنَّهَا تنجس، لَا المَاء وَحده، فَإِنَّهُ عِنْده يدْفع النَّجَاسَة مَا لم يتَغَيَّر، هَذَا هُوَ الَّذِي ترجح عِنْده، لكنه كَانَ يَتَّقِي المَاء فِي خَاصَّة نَفسه. وَحكي عَن أبي حنيفَة وسُفْيَان الثَّوْريّ، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنهم قَالَا: لِأَن أخر من السَّمَاء أَهْون عَليّ من أَن افتي بِتَحْرِيم قَلِيل النَّبِيذ، وَمَا شربته قطّ، وَلَا أشربه. فعملوا بالترجيح فِي الْفتيا، وتورعوا عَنهُ فِي أنفسهم. وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين، من حكم الْحَكِيم أَن يُوسع على الْمُسلمين فِي الْأَحْكَام، ويضيق على نَفسه، يَعْنِي بِهِ هَذَا الْمَعْنى، ومنشأ هَذَا الْوَرع الِالْتِفَات إِلَى إِمْكَان اعْتِبَار الشَّرْع ذَلِك الْمَرْجُوح، وَهَذَا الِالْتِفَات ينشأ من القَوْل: بَان الْمُصِيب وَاحِد، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، وَمِنْه ثار القَوْل فِي مذْهبه بمراعاة الْخلاف. قلت: وَكَذَلِكَ أَيْضا كَانَ الشَّافِعِي، رَحمَه الله، يُرَاعِي الْخلاف، وَقد نَص على ذَلِك فِي مسَائِل، وَقد قَالَ أَصْحَابه بمراعاة الْخلاف حَيْثُ لَا تفوت بِهِ سنة فِي مَذْهَبهم، وَقد عقب البُخَارِيّ هَذَا الْبَاب بِمَا ذكره فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب تَفْسِير الشُّبُهَات، قَالَ فِيهِ: وَقَالَ حسان بن أبي سِنَان: مَا رَأَيْت شَيْئا أَهْون من الْوَرع: دع مَا يريبك إِلَى مَا لَا يريبك. وَأورد فِيهِ حَدِيث الْمَرْأَة السَّوْدَاء، وَأَنَّهَا أَرْضَعَتْه وَزَوجته. وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ وَكَيف وَقد قيل، وَحَدِيث ابْن وليدة زَمعَة، وَأَنه قضى بِهِ لعبد بن زَمعَة أَخِيه بالفراش، ثمَّ قَالَ لسودة: احتجبي مِنْهُ لما رأى من شبهه، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِي الله تَعَالَى، وَحَدِيث عدي بن حَاتِم، رَضِي الله عَنهُ، وَقَوله: اجد مَعَ كَلْبِي على الصَّيْد كَلْبا آخر، لَا أَدْرِي أَيهمَا أَخذ. قَالَ: لَا تَأْكُل. ثمَّ ذكر حَدِيث التمرة المسقوطة، وَقَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَوْلَا أَن تكون صَدَقَة لأكلتها) ، ثمَّ عقبه بِمَا لَا يجْتَنب، فَقَالَ: بَاب من لم ير الوساوس وَنَحْوهَا من الشُّبُهَات، وَذكر فِيهِ حَدِيث الرجل يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة. قَالَ: لَا، حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا، ثمَّ ذكر حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: (أَن قوما قَالُوا: يَا رَسُول الله، إِن قوما يأتوننا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أذكروا اسْم الله عَلَيْهِ أم لَا؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سموا عَلَيْهِ وكلوه) .

قلت: فَتحصل لنا مِمَّا تقدم ذكره أَن المشتبهات الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث الَّتِي يَنْبَغِي اجتنابها فِيهِ أَقْوَال. احدها: أَنه الَّذِي تَعَارَضَت فِيهِ الْأَدِلَّة فاشتبهت، فَمثل هَذَا يجب فِيهِ الْوَقْف إِلَى التَّرْجِيح، لِأَن الْإِقْدَام على أحد الْأَمريْنِ من غير رُجْحَان الحكم بِغَيْر دَلِيل محرم. وَالثَّانِي: المُرَاد بِهِ المكروهات، وَهُوَ قَول الْخطابِيّ والمازري وَغَيرهمَا، وَيدخل فِيهِ مَوَاضِع اخْتِلَاف الْعلمَاء. وَالثَّالِث: أَنه الْمُبَاح، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ حَلَال يتورع عَنْهَا، وَقد رده الْقُرْطُبِيّ كَمَا تقدم، وَقَالَ: فَإِن قيل: هَذَا يُؤَدِّي إِلَى رفع مَعْلُوم من الشَّرْع، وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء بعده وَأكْثر أَصْحَابه كَانُوا يزهدون فِي الْمُبَاح، فَرَفَضُوا التنعم بِطيب الْأَطْعِمَة ولين اللبَاس وَحسن المساكن، وتلبسوا بضدها من خشونة الْعَيْش، وَهُوَ مَعْلُوم مَنْقُول من سيرهم، قَالَ: فَالْجَوَاب أَن ذَلِك مَحْمُول على مُوجب شَرْعِي اقْتضى تَرْجِيح التّرْك على الْفِعْل، فَلم يَزْهَدُوا فِي مُبَاح، لِأَن حَقِيقَته التَّسَاوِي، بل فِي أَمر مَكْرُوه، وَلَكِن الْمَكْرُوه تَارَة يكرههُ الشَّرْع، من حَيْثُ هُوَ، وَتارَة يكرههُ لما يُؤَدِّي إِلَيْهِ: كالقبلة للصَّائِم، فَإِنَّهَا تكره لما يخَاف مِنْهَا من إِفْسَاد الصَّوْم، ومسألتنا من هَذَا الْقَبِيل، لِأَنَّهُ انْكَشَفَ لَهُم من عَاقِبَة مَا خَافُوا على نُفُوسهم مِنْهُ مفاسد، أما فِي الْحَال من الركون إِلَى الدُّنْيَا، وَأما فِي الْمَآل من الْحساب عَلَيْهِ والمطالبة بالشكر وَغَيره، وَهَذَا آخر كَلَامه. قلت: وَقد اخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي ترك الطّيب وَترك لبس الناعم، فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإسفرائني: إِن ذَلِك لَيْسَ بِطَاعَة، وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة} (الْأَعْرَاف: ٣٢) . وَقَالَ الشَّيْخ ابو الطّيب الطَّبَرِيّ: إِنَّه طَاعَة،

<<  <  ج: ص:  >  >>