للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَدَلِيله مَا علم من أَمر السّلف من خشونة الْعَيْش. وَقَالَ ابْن الصّباغ: يخْتَلف ذَلِك بإختلاف أَحْوَال النَّاس، وتفرغهم لِلْعِبَادَةِ وقصودهم واشتغالهم بالضيق وَالسعَة. وَقَالَ الرَّافِعِيّ، من أَصْحَابنَا: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَأما مَا يخرج إِلَى بَاب الوسوسة من تَجْوِيز الْأَمر الْبعيد فَهَذَا لَيْسَ من المشتبهات الْمَطْلُوب اجتنابها، وَقد ذكر الْعلمَاء لَهُ أَمْثِلَة؛ فَقَالُوا: هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ تَجْوِيز أَمر بعيد كَتَرْكِ النِّكَاح من نسَاء بلد كَبِير خوفًا أَن يكون لَهُ فِيهَا محرم، وَترك اسْتِعْمَال مَاء فِي فلاة لجَوَاز عرُوض النَّجَاسَة، أَو غسل ثوب مَخَافَة طرؤ نَجَاسَة عَلَيْهِ لم يشاهدها، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يُشبههُ، فَهَذَا لَيْسَ من الْوَرع. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْوَرع فِي مثل هَذَا وَسْوَسَة شيطانية، إِذْ لَيْسَ فِيهَا من معنى الشُّبْهَة شَيْء، وَسبب الْوُقُوع فِي ذَلِك عدم الْعلم بالمقاصد الشَّرْعِيَّة. قلت: من ذَلِك مَا ذكره الشَّيْخ الإِمَام عبد الله بن يُوسُف الْجُوَيْنِيّ، وَالِد إِمَام الْحَرَمَيْنِ، فَحكى عَن قوم أَنَّهُمَا لَا يلبسُونَ ثيابًا جدداً حَتَّى يغسلوها، لما فِيهَا مِمَّن يعاني قصر الثِّيَاب، ودقها وتجفيفها، وإلقائها وَهِي رطبَة على الأَرْض النَّجِسَة، ومباشرتها بِمَا يغلب على الظَّن نَجَاسَته من غير أَن يغسل بعد ذَلِك، فَاشْتَدَّ نكيره عَلَيْهِم، وَقَالَ: هَذِه طَريقَة الْخَوَارِج الحرورية، أبلاهم الله، تَعَالَى بالغلق فِي غير مَوضِع القلق، وبالتهاون فِي مَوضِع الِاحْتِيَاط، وفاعل ذَلِك معترض على أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ، فانهم كَانُوا يلبسُونَ الثِّيَاب الجدد قبل غسلهَا، وَحَال الثِّيَاب فِي أعصارهم، كحالها فِي أعصارنا، وَلَو أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بغسلها مَا خَفِي، لِأَنَّهُ مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى، وَذكر أَيْضا: أَن قوما يغسلون أَفْوَاههم إِذا أكلُوا الْخبز خوفًا من رَوْث الثيران عِنْد الدياس، فَإِنَّهَا تقيم أَيَّامًا فِي المداسة، وَلَا يكَاد يَخْلُو طحين عَن ذَلِك. قَالَ الشَّيْخ: هَذَا غلو وَخُرُوج عَن عَادَة السّلف، وَمَا روى أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَنهم رَأَوْا غسل الْفَم من ذَلِك. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي التمرة الَّتِي وجدهَا فِي بَيته: لَوْلَا إِنِّي أَخَاف أَن تكون من الصَّدَقَة لأكلتها؟ وَدخُول الصَّدَقَة بَيت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بعيد لِأَنَّهَا كَانَت مُحرمَة عَلَيْهِ. وَأجِيب عَنهُ: أَن مَا توقعه النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يكن بَعيدا، لانهم كَانُوا يأْتونَ بالصدقات إِلَى الْمَسْجِد، وتوقع أَن يكون صبي أَو من لَا يعقل أَدخل التمرة الْبَيْت، فاتقى ذَلِك لقُرْبه.

قَوْله: (لَا يعلمهَا كثير من النَّاس) اي: لَا يعلم المشتبهات كثير من النَّاس، أَرَادَ: لَا يعلم حكمهَا، وَجَاء ذَلِك مُفَسرًا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (وَهِي لَا يدْرِي كثير من النَّاس أَمن الْحَلَال هِيَ أم من الْحَرَام؟) وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى مُشْتَبهَات: أَي تشتبه على بعض النَّاس دون بعض، لَا أَنَّهَا فِي نَفسهَا مشتبهة على كل النَّاس لَا بَيَان لَهَا، بل الْعلمَاء يعرفونها، لِأَن الله تَعَالَى جعل عَلَيْهَا دَلَائِل يعرفهَا بهَا أهل الْعلم، وَلِهَذَا قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَام: (لَا يعلمهَا كثير من النَّاس) وَلم يقل: لَا يعلمهَا كل النَّاس، أَو أحد مِنْهُم، وَقَالَ بعض الْعلمَاء: معرفَة حكمهَا مُمكن، لَكِن للقليل من النَّاس وهم: المجتهدون، فالمشتبهات على هَذَا فِي حق غَيرهم، وَقد يَقع لَهُم حَيْثُ لَا يظْهر لَهُم تَرْجِيح لأحد اللَّفْظَيْنِ. قَوْله: (اسْتَبْرَأَ) أَي: طلب الْبَرَاءَة فِي دينه من النَّقْص، وَعرضه من الطعْن فِيهِ. قَوْله: (لدينِهِ) إِشَارَة إِلَى مَا يتَعَلَّق بِاللَّه تَعَالَى، وَقَوله: وَعرضه، إِشَارَة الى مَا يتَعَلَّق بِالنَّاسِ، أَو ذَاك اشارة إِلَى مَا يتَعَلَّق بِالشَّرْعِ، وَهَذَا إِلَى الْمُرُوءَة. فان قلت: لِمَ قدم الْعرض على الدّين؟ قلت: الْقَصْد هُوَ ذكرهمَا جَمِيعًا من غير نظر إِلَى التَّرْتِيب، لِأَن الْوَاو لَا تدل على التَّرْتِيب على مَا عرف فِي مَوْضِعه، وَأما تَقْدِيم: الْعرض، فَيمكن أَن يكون لأجل تعلقه بِالنَّاسِ الْمُقْتَضِي لمزيد الاهتمام بِهِ. قَوْله: (وَمن وَقع فِي الشُّبُهَات) قَالَ الْخطابِيّ: كل شَيْء أشبه الْحَلَال من وَجه، وَالْحرَام من وَجه فَهُوَ شُبْهَة. وَقَالَ غَيره: هَذَا يكون لأحد وَجْهَيْن: أَحدهمَا: إِذا عود نَفسه عدم التحرر مِمَّا يشْتَبه أثر ذَلِك فِي استهانته، فَوَقع فِي الْحَرَام مَعَ الْعلم بِهِ. وَالثَّانِي: أَنه إِذا تعاطى الشُّبُهَات وَقع فِي الْحَرَام فِي نفس الْأَمر، وَقد قيل بدل الْوَجْه الثَّانِي: إِن من أَكثر وُقُوع الشُّبُهَات أظلم قلبه عَلَيْهِ لفقدان نور الْعلم والورع، فَيَقَع فِي الْحَرَام وَلَا يشْعر بِهِ، وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه دَلِيل أَن من لم يتق الشُّبُهَات الْمُخْتَلف فِيهَا، وانتهك حرمتهَا، فقد أوجد السَّبِيل على عرضه فِيمَا رَوَاهُ واشهد بِهِ. قلت: حَاصِل مَا ذكر الْعلمَاء هَهُنَا فِي تَفْسِير الشُّبُهَات أَرْبَعَة أَشْيَاء. تعَارض الادلة، وَاخْتِلَاف الْعلمَاء، وَقسم الْمَكْرُوه والمباح. وَقد قيل: الْمَكْرُوه عقبَة بَين الْحل وَالْحرَام، فَمن استكثر من الْمَكْرُوه تطرق إِلَى الْحَرَام، والمباح عقبَة بَينه وَبَين الْمَكْرُوه، فَمن استكثر مِنْهُ تطرق إِلَى الْمَكْرُوه، ويعضد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن حبَان من طَرِيق ذكر مُسلم أسنادها وَلم يسْبق لَفظهَا، فِيهَا من الزِّيَادَة: (اجعلوا بَيْنكُم وَبَين الْحَرَام ستْرَة من الْحَلَال، من فعل ذَلِك اسْتَبْرَأَ لعرضه وَدينه، وَمن ارتع فِيهِ كَانَ كالمرتع إِلَى جنب الْحمى يُوشك ان يَقع فِيهِ) .

قَوْله: (كرَاع

<<  <  ج: ص:  >  >>