بِعَينهَا أُسْوَة للْغُرَمَاء فِي الْمَوْت بِخِلَاف التَّفْلِيس، وَبِه قَالَ أَحْمد. وَفِي (التَّوْضِيح) مُقْتَضى الحَدِيث رُجُوعه أَي: رُجُوع صَاحب السّلْعَة وَلَو قبض بعض الثّمن لإِطْلَاق الحَدِيث، وَهُوَ الْجَدِيد من قَول الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَخَالف فِي الْقَدِيم، فَقَالَ: يضارب بباقي الثّمن فَقَط، واستدلت الشَّافِعِيَّة بقوله: من أدْرك مَاله بِعَيْنِه على أَن شَرط اسْتِحْقَاق صَاحب المَال دون غَيره أَن يجد مَاله بِعَيْنِه لم يتَغَيَّر وَلم يتبدل، وإلَاّ فَإِن تَغَيَّرت الْعين فِي ذَاتهَا بِالنَّقْصِ مثلا أَو فِي صفة من صفاتها فَهُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء.
وَبسط بعض الشَّافِعِيَّة الْكَلَام هُنَا، وَجعله على وُجُوه: الأول: لَا بُد فِي الحَدِيث من اضمار وَلم يكن البَائِع قبض ثمنهَا لِأَنَّهُ إِذا قَبضه فَلَا رُجُوع لَهُ فِيهِ إِجْمَاعًا. الثَّانِي: خصص مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَول قديم لَهُ رُجُوعه فِي الْعين بِمَا إِذا لم يكن قبض من ثمنهَا شَيْئا، فَإِن قبض بعضه صَار فِي بَقِيَّته أُسْوَة الْغُرَمَاء، وَقد قُلْنَا آنِفا: إِن الشَّافِعِي لم يفرق فِي الْجَدِيد بَين قبض بعض الثّمن وَبَين عدم قَبضه لعُمُوم الحَدِيث. الثَّالِث: اسْتدلَّ الشَّافِعِي وَأحمد بِرِوَايَة عمر بن خلدَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من أفلس أَو مكات فَوجدَ رجل مَتَاعه ... . الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره على التَّسْوِيَة بَين حالتي الإفلاس حَيا وَمَيتًا أَن لصَاحب السّلْعَة الرُّجُوع، وَفرق مَالك بَينهمَا، وَقَالَ: هُوَ فِي حَالَة الْمَوْت أُسْوَة الْغُرَمَاء. الرَّابِع: اسْتدلَّ بقوله: أدْرك مَاله بِعَيْنِه، على أَنَّهَا إِذا هَلَكت أَو أخرجهَا عَن ملكه بِبيع أَو هبة أَو عتق أَو نَحوه أَنه لَا يرجع فِيهَا، لِأَنَّهَا لَيست على يَد المُشْتَرِي. الْخَامِس: اسْتدلَّ بِهِ على أَن التَّصَرُّف الَّذِي لَا يزِيل الْملك لَا يبطل حق الرُّجُوع للْبَائِع كالتدبير، واستيلاد أم الْوَلَد، وَهُوَ كَذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُدبر عِنْد من يجوز بَيْعه، وَهُوَ الصَّحِيح، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى أم الْوَلَد فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوع فِيهَا على الصَّوَاب. قَالَ شَيخنَا: وَأما مَا وَقع فِي فَتَاوَى النَّوَوِيّ من أَنه يرجع فَهُوَ غلط، وَقد عبَّر هُوَ فِي (تَصْحِيح التَّنْبِيه) بِأَن الصَّوَاب أَنه لَا يرجع. السَّادِس: مَا المُرَاد بالمفلس الْمَذْكُور فِي الحَدِيث وَفِي قَول الْفُقَهَاء؟ قَالَ الرَّافِعِيّ نقلا عَن الْأَئِمَّة: إِن الْمُفلس من عَلَيْهِ دُيُون لَا تفي بِمَالِه، وَاعْترض عَلَيْهِ بأمرين: أَحدهمَا: أَنه لَا بُد من تَقْيِيد ذَلِك بِضَرْب الْحَاكِم الْحجر عَلَيْهِ، فَإِن من هَذِه حَاله وَلم يضْرب عَلَيْهِ الْحجر يَصح بَيْعه وشراؤه بِلَا خلاف. وَالثَّانِي: أَنه تتقيد الدُّيُون بديون الْعباد، أما دُيُون الله تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَنَحْوهَا، فَإِنَّهُ لَا يضْرب عَلَيْهِ الْحجر بعجز مَاله عَنْهَا إِذا كَانَ مَاله يَفِي بديون الْعباد، كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب (الْإِيمَان) . السَّابِع: قَوْله: مَاله بِعَيْنِه، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَغَيره: فَوجدَ الرجل سلْعَته عِنْده بِعَينهَا، دَلِيل على أَنه لَا يخْتَص ذَلِك بِالْبيعِ، بل لَو أقْرضهُ دَرَاهِم ثمَّ أفلس فَوجدَ الرجل الدَّرَاهِم بِعَينهَا فَهُوَ أَحَق بهَا من بَقِيَّة الْغُرَمَاء، لِأَن السّلْعَة لُغَة الْمَتَاع. قَالَه الْجَوْهَرِي، وَفِي بعض طرقه فِي (الصَّحِيح) أَيْضا: فَوجدَ الرجل مَتَاعه أَو مَاله. الثَّامِن: لَو أجره شَيْئا بمنجل وتفلس الْمُسْتَأْجر قبل فيض الْأُجْرَة أَنه يفْسخ الْإِجَارَة وَيرجع بِالْعينِ الْمُسْتَأْجرَة، وَقد صرح بِهِ الرَّافِعِيّ، قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وإدراجه تَحت لفظ الحَدِيث مُتَوَقف على الْمَنَافِع، هَل يُطلق عَلَيْهَا إسم الْمَتَاع وَالْمَال؟ قَالَ: وَإِطْلَاق المَال عَلَيْهَا أقوى. قلت: يُطلق عَلَيْهَا اسْم الْمَتَاع لُغَة، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْمَتَاع السّلْعَة، وَالْمَتَاع الْمَنْفَعَة. التَّاسِع: يدْخل تَحت ظَاهر الحَدِيث مَا الْتزم فِي ذمَّته نقل مَتَاع من مَكَان إِلَى مَكَان، ثمَّ أفلس، وَالْأُجْرَة بِيَدِهِ قَائِمَة، فَإِنَّهُ يثبت حق الْفَسْخ وَالرُّجُوع إِلَى الْأُجْرَة، قَالَه ابْن دَقِيق الْعِيد. الْعَاشِر: فِيهِ حجَّة لأحد الْوَجْهَيْنِ أَن الْمُفلس الْمَضْرُوب عَلَيْهِ الْحجر يحل الدُّيُون المؤجلة عَلَيْهِ، وَالصَّحِيح أَنه لَا يحل. الْحَادِي عشر: قد يسْتَدلّ بِهِ لأصح الْوَجْهَيْنِ: أَن الْغُرَمَاء إِذا قدمُوا صَاحب الْعين الْقَائِمَة بِثمنِهَا لم يسْقط حَقه من الرُّجُوع فِي الْعين. الثَّانِي عشر: قد يسْتَدلّ بِهِ على أَن لصَاحب الْعين الاستبداد فِي الرُّجُوع فِي عينه، وَهُوَ أحد الْوَجْهَيْنِ، وَقيل: لَيْسَ ذَلِك إلَاّ بالحاكم. الثَّالِث عشر: قد يسْتَدلّ بِهِ لأصح الْوَجْهَيْنِ أَنه: لَو امْتنع المُشْتَرِي من تَسْلِيم الثّمن أَو هرب، أَو امْتنع الْوَارِث من تَسْلِيم الثّمن وَحجر الْحَاكِم عَلَيْهِ أَنه لصَاحب الْعين الرُّجُوع إِلَى حَقه لقَوْله: أَيّمَا امرىء أفلس، فَهَذَا مَفْهُوم شَرط وَصفَة، فَيَقْتَضِي أَنه لَا رُجُوع فِي حق غير الْمُفلس. الرَّابِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ لأصح الْوَجْهَيْنِ أَنه إِذا بَاعه عَبْدَيْنِ فَتلف أَحدهمَا رَجَعَ فِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ، وَقيل: يرجع فِيهِ بِكُل الثّمن. الْخَامِس عشر: اسْتدلَّ بِهِ لأحد الْوَجْهَيْنِ أَنه إِذا وجد رب السّلْعَة سلْعَته عِنْد الْمُفلس بعد أَن خرجت: ثمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِغَيْر عوض أَنه يرجع كالميراث وَالْهِبَة، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ الرَّافِعِيّ فِي (الشَّرْح الصَّغِير) ، وَصحح النَّوَوِيّ من زياداته فِي (الرَّوْضَة) عدم الرُّجُوع لِأَنَّهُ تَلقاهُ من مَالك آخر غير
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute