فَلم يلْتَحق بهَا لَا فِي النَّوْع وَلَا فِي الحكم، أَلا يرى أَن مملك مَالِكه باقٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب أَيْضا، وَقَالَ مَالك: لَيْسَ فِي الحَدِيث أَن السهْم قَتله، وَإِنَّمَا قَالَ: حَبسه، ثمَّ بعد أَن حَبسه صَار مَقْدُورًا عَلَيْهِ، فَلَا يُؤْكَل إلَاّ بِالذبْحِ، وَلَا فرق بَين أَن يكون وحشياً أَو إنسياً. وَقَوله: (فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) ، قَالَ مَالك: نقُول بِمُوجبِه، أَي: نرميه ونحبسه فَإِن أدركناه حَيا ذكيناه، وَإِن تلف بِالرَّمْي فَهَل نأكله أَو لَا؟ وَلَيْسَ فِي الحَدِيث تعْيين أَحدهمَا، فلحق بالمجملات، فَلَا ينْهض حجَّة. وَقَالُوا: فِي حَدِيث أبي العشراء لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن التِّرْمِذِيّ قَالَ فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ الْآن. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا يصلح هَذَا إلَاّ فِي المتردية والمستوحشة، قَالُوا: وَلَئِن سلمنَا صِحَّته لما كَانَ فِيهِ حجَّة، إِذْ مقتضاة جَوَاز الذَّكَاة فِي أَي عُضْو كَانَ مُطلقًا فِي الْمَقْدُور على تذكيته وَغَيره، وَلَا قَائِل بِهِ فِي الْمَقْدُور عَلَيْهِ، فَظَاهره لَيْسَ بِمُرَاد قطعا، وَقَالَ شَيخنَا، رَحمَه الله: لَيْسَ الْعَمَل على عُمُوم هَذَا الحَدِيث. وَلَعَلَّه خرج جَوَابا بالسؤال عَن المتوحش والمتردي الَّذِي لَا يقدر على ذبحه، وَقد روى أَبُو الْحسن الْمَيْمُونِيّ أَنه سَأَلَ أَحْمد بن حَنْبَل عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي غلط. قلت: فَمَا تَقول؟ قَالَ: أما أَنا فَلَا يُعجبنِي وَلَا أذهب إِلَيْهِ إلَاّ فِي مَوضِع ضَرُورَة، كَيفَ مَا أمكنتك الذَّكَاة لَا يكون إلَاّ فِي الْحلق أَو اللبة، قَالَ: فَيَنْبَغِي للَّذي يذبح أَن يقطع الْحلق أَو اللبة. قلت: روى مُحَمَّد بن الْحسن عَن أبي حنيفَة عَن سعيد بن مَسْرُوق عَن عَبَايَة بن رِفَاعَة بن رَافع عَن ابْن عمر: أَن بَعِيرًا تردى فِي بِئْر بِالْمَدِينَةِ، فَلم يقدر على منحره، فوجىء بسكين من قبل خاصرته، فَأخذ مِنْهُ ابْن عمر عشيراً بِدِرْهَمَيْنِ. العشير: لُغَة فِي الْعشْر: كالنصيف وَالنّصف. وَقيل: العشير الإمعاء، وَمَعَ هَذَا قَول الْجَمَاعَة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِيهِ الْكِفَايَة فِي الِاحْتِجَاج بِهِ.
الرَّابِع: فِيهِ: من شَرط الذَّكَاة إنهار الدَّم، وَلم يخص بِشَيْء من الْعُرُوق فِي شَيْء من الْكتب السِّتَّة إلَاّ فِي رِوَايَة رَوَاهَا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من رِوَايَة من لم يسم عَن رَافع بن خديج، قَالَ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الذَّبِيحَة بالليطة، فَقَالَ: كل مَا فرى الْأَوْدَاج إلَاّ السن أَو الظفر، وَلَا شكّ أَن ذَلِك مَخْصُوص بمَكَان الذّبْح والنحر لغَلَبَة الدَّم فِيهِ، ولكونه أسْرع إِلَى إزهاق نفس الْحَيَوَان وإراحته من التعذيب. وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَا يجب قطعه فِي الذّبْح، وَهُوَ أَرْبَعَة: الْحُلْقُوم والمرىء والودجان فَاشْترط قطع الْأَرْبَعَة: اللَّيْث وَدَاوُد وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَمَالك فِي رِوَايَة، وَلَو اكْتفى الشَّافِعِي وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ بِقطع الْحُلْقُوم والمريء فَقَط، وَاكْتفى مَالك بالحلقوم والودجين، وَاكْتفى أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة بِقطع ثَلَاثَة من الْأَرْبَعَة، وَعَن أبي يُوسُف: اشْتِرَاط الْحُلْقُوم واثنين من الثَّلَاثَة الْبَاقِيَة، وَعنهُ أَيْضا اشْتِرَاط الْحُلْقُوم والمري وَأحد الودجين، وَاشْترط مُحَمَّد بن الْحسن أَكثر كل وَاحِد من الْأَرْبَعَة.
الْخَامِس: فِيهِ اشْتِرَاط التَّسْمِيَة لِأَنَّهُ قرنها بالذكاة وعلق الْإِبَاحَة عَلَيْهَا، فقد صَار كل وَاحِد مِنْهُمَا شرطا وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي فِي عدم اشْتِرَاط التَّسْمِيَة، فَقَالَ: لَو ترك التَّسْمِيَة عَامِدًا أَو نَاسِيا، تُؤْكَل ذَبِيحَته، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : قَالَ مَالك: لَا يُؤْكَل فِي الْوَجْهَيْنِ. قلت: لَيْسَ كَذَلِك مذْهبه، بل مذْهبه مَا ذكره ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) : أَن عِنْد مَالك يحل إِذا تَركهَا نَاسِيا، وَلَا يحل إِذا تَركهَا عَامِدًا. قلت: هَذَا هُوَ مثل مَذْهَبنَا، فَإِن عندنَا إِذا تَركهَا عَامِدًا فالذبيحة ميتَة لَا تُؤْكَل، وَإِن تَركهَا نَاسِيا أكل مَا ذبحه، وَالْمَشْهُور عَن أَحْمد مثل قَوْلنَا، ومذهبنا مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وطاووس وَابْن الْمسيب وَالْحسن وَالثَّوْري وَإِسْحَاق وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَفِي التَّفْسِير فِي سُورَة الْأَنْعَام وَدَاوُد بن عَليّ يحرم مَتْرُوك التَّسْمِيَة نَاسِيا، وَقَالَ فِي (النَّوَازِل) : وَفِي قَول بشر لَا يُؤْكَل إِذا ترك التَّسْمِيَة عَامِدًا أَو نَاسِيا. وَقَالَ الْقَدُورِيّ فِي (شَرحه لمختصر الْكَرْخِي) : وَقد اخْتلف الصَّحَابَة فِي النسْيَان، فَقَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس: إِذا ترك التَّسْمِيَة أكل، وَقَالَ ابْن عمر: لَا يُؤْكَل، وَالْخلاف فِي النسْيَان يدل على اتِّفَاقهم فِي الْعمد. فَإِن قلت: كَيفَ صُورَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا؟ قلت: أَن يعلم أَن التَّسْمِيَة شَرط وَتركهَا مَعَ ذكرهَا، أما لَو تَركهَا من لم يعلم باشتراطها فَهُوَ فِي حكم النَّاسِي، ذكره فِي (الْحَقَائِق) وَكَذَلِكَ الحكم على الْخلاف إِذا تَركهَا عمدا عِنْد إرْسَال الْبَازِي وَالْكَلب وَالرَّمْي، قَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : وَهَذَا القَوْل من الشَّافِعِي مُخَالف للْإِجْمَاع، لِأَنَّهُ لَا خلاف فِيمَن كَانَ قبله فِي حُرْمَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا، وَإِنَّمَا الْخلاف بَينهم فِي مَتْرُوك التَّسْمِيَة نَاسِيا. والْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْمُسلم يَكْفِيهِ اسْمه، فَإِن نسي أَن يُسَمِّي حِين يذبح فليسم وليذكر اسْم الله ثمَّ ليَأْكُل) . حَدِيث ضَعِيف لِأَن فِي سَنَده مُحَمَّد بن يزِيد بن سِنَان، قَالُوا: كَانَ صَدُوقًا، وَلَكِن كَانَ شَدِيد الْغَفْلَة. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: وَفِي سَنَده معقل بن عبد الله وَهُوَ وَإِن كَانَ من رجال مُسلم لكنه أَخطَأ فِي رفع هَذَا الحَدِيث، وَقد رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور وَعبد الله
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute