للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أول من العمرين، وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ الصّفة تَقول: رَأَيْت زيدا أول من عامنا، فَأول بِمَنْزِلَة: قبل، كَأَنَّك قلت: رَأَيْت زيدا عَاما قبل عامنا، فَحكم لَهُ بالظرف حَتَّى قَالُوا: أبدأ بِهَذَا أَوله، وَبَنوهُ على الضَّم كَمَا قَالُوا: أبدأ بِهِ قبل، فَصَارَ كَأَنَّهُ قطع عَن الْإِضَافَة. وَمن النصب على الظّرْف قَوْله تَعَالَى: {الركب أَسْفَل مِنْكُم} (الْأَنْفَال: ٤٢) كَمَا تَقول: الركب أمامك، وَأَصله الصّفة، وَصَارَ: أَسْفَل، ظرفا. وَالتَّقْدِير: والركب فِي مَكَان أَسْفَل من مَكَانكُمْ، ثمَّ حذف الْمَوْصُوف وأقيمت الصّفة مقَامه، فَصَارَ: أَسْفَل مِنْكُم، بِمَنْزِلَة: تحتكم، وَمن لم يَجْعَل أَولا صلَة صرفه بِمَنْزِلَة: فَكل، الَّذِي هُوَ بِمَعْنى: الرعدة. وَلَيْسَ فِيهِ إلَاّ وزن الْفِعْل. تَقول: مَا ترك لنا أَولا وَلَا آخر، كَقَوْلِك: لَا قَدِيما وَلَا حَدِيثا. قَوْله (لما رَأَيْت) بِكَسْر اللَّام و: مَا، مَوْصُولَة، والعائد مَحْذُوف. و: من، بَيَانِيَّة تَقْدِيره: للَّذي رَأَيْته من حرصك. أَو تكون: مَا، مَصْدَرِيَّة و: من، تبعيضية، وَتَكون مفعول: رَأَيْت، وَالتَّقْدِير. لرؤيتي بعض حرصك. قَوْله: (على الحَدِيث) يتَعَلَّق بالحرص. قَوْله: (أسعدُ النَّاس) كَلَام إضافي مُبْتَدأ. وَالْبَاء فِي: (بشفاعتي) يتَعَلَّق بِهِ: (وَيَوْم الْقِيَامَة) نصب على الظَّرْفِيَّة. وَقَوله: (من قَالَ) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر الْمُبْتَدَأ. و: (من) ، مَوْصُولَة. وَقَوله: (خَالِصا) ، حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: (قَالَ) . وَقَوله: (من قلبه) يجوز أَن يتَعَلَّق بقوله: خَالِصا، أَو بقوله: قَالَ. وَالظَّاهِر أَن يتَعَلَّق: بقال. فَإِذا تعلق: بقال يكون ظرفا لَغوا، وَإِن تعلق بخالصاً، يكون ظرفا مُسْتَقرًّا، إِذْ تَقْدِيره حينئذٍ ناشئاً من قلبه، واللغو لَا مَحل لَهُ من الْإِعْرَاب. والمستقر هُنَا مَنْصُوب على الْحَال.

بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (من أسعد النَّاس) أسعد: أفعل، والسعد هُوَ الْيمن، تَقول مِنْهُ: سعد يَوْمنَا يسْعد سعوداً، والسعودة خلاف النحوسة، والسعادة خلاف الشقاوة، تَقول مِنْهُ: سعد الرجل بِالْكَسْرِ فَهُوَ سعيد، مِثَال: سلم فَهُوَ سليم. وَسعد، على مَا لم يسم فَاعله، فَهُوَ: مَسْعُود. فَإِن قلت: أسعد، هُنَا من أَي الْبَاب؟ قلت: من الْبَاب الثَّانِي، وَهُوَ من بَاب: فعل يفعل بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي وَالْفَتْح فِي الغابر، وَالْأول من بَاب: فعل يفعل، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالضَّم فِي الغابر. فَإِن قلت: أفعل التَّفْضِيل يدل على الشّركَة، والمشرك وَالْمُنَافِق لَا سَعَادَة لَهما. قلت: أسعد هَهُنَا بِمَعْنى سعيد، يَعْنِي سعيد النَّاس، كَقَوْلِهِم: النَّاقِص والأشج أعدلا بني مَرْوَان، يَعْنِي عادلا بني مَرْوَان، وَيجوز أَن يكون على مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ الْمَشْهُور، والتفضيل بِحَسب الْمَرَاتِب أَي: هُوَ أسعد مِمَّن لم يكن فِي هَذِه الْمرتبَة من الْإِخْلَاص الْمُؤَكّد الْبَالِغ غَايَته، وَكثير من النَّاس يحصل لَهُ سعد بِشَفَاعَتِهِ، لَكِن الْمُؤمن المخلص أَكثر سَعَادَة بهَا، فَإِن النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، يشفع فِي الْخلق بإراحتهم من هول الْموقف، ويشفع فِي بعض الْكفَّار بتَخْفِيف الْعَذَاب، كَمَا صَحَّ فِي حق أبي طَالب، ويشفع فِي بعض الْمُؤمنِينَ بِالْخرُوجِ من النَّار بعد أَن دخلوها، وَفِي بَعضهم بِعَدَمِ دُخُولهَا بعد أَن يستوجبوا دُخُولهَا، وَفِي بَعضهم بِدُخُول الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب، وَفِي بَعضهم بِرَفْع الدَّرَجَات فِيهَا، فَظهر الِاشْتِرَاك فِي مُطلق السَّعَادَة بالشفاعة، وَأَن أسعدهم بهَا الْمُؤمن المخلص. قَوْله: (بشفاعتك) ، الشَّفَاعَة مُشْتَقَّة من الشفع، وَهُوَ ضم الشَّيْء إِلَى مثله، كَأَن الْمَشْفُوع لَهُ كَانَ فَردا فَجعله الشَّفِيع شفعاً بِضَم نَفسه إِلَيْهِ، والشفاعة: الضَّم إِلَى إِلَى آخر معاوناً لَهُ، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي انضمام من هُوَ أَعلَى مرتبَة إِلَى من هُوَ أدنى. وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل على أَن الشَّفَاعَة إِنَّمَا تكون فِي أهل الْإِخْلَاص خَاصَّة، وهم أهل التَّوْحِيد، وَهَذَا مُوَافق لقَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (لكل نَبِي دَعْوَة، وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأمتي يَوْم الْقِيَامَة، فَهِيَ نائلة إِن شَاءَ الله تَعَالَى من مَاتَ من أمتِي لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا) . قلت: هَذَا الحَدِيث مَعَ غَيره من الْآيَات وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب، الْجَارِيَة مجْرى الْقطع، دَلِيل على ثُبُوت الشَّفَاعَة.

قَالَ عِيَاض: مَذْهَب أهل السّنة جَوَاز الشَّفَاعَة عقلا، ووجوبها بِصَرِيح الْآيَات وَالْأَخْبَار الَّتِي بلغ مجموعها التَّوَاتُر لصحتها فِي الْآخِرَة لمذنبي الْمُؤمنِينَ. وَأجْمع السّلف الصَّالح وَمن بعدهمْ من أهل السّنة على ذَلِك، ومنعت الْخَوَارِج وَبَعض الْمُعْتَزلَة مِنْهَا، وتأولت الْأَحَادِيث على زيادات الدَّرَجَات وَالثَّوَاب، وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين} (المدثر: ٤٨) {مَا للظالمين من حميم وَلَا شَفِيع يطاع} (غَافِر: ١٨) وَهَذِه إِنَّمَا جَاءَت فِي الْكفَّار، وَالْأَحَادِيث مصرحة بِأَنَّهَا فِي المذنبين. وَقَالَ: الشَّفَاعَة خَمْسَة أَقسَام. أَولهَا: الإراحة من هول الْموقف. الثَّانِيَة: الشَّفَاعَة فِي إِدْخَال قوم الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب، وَهَذِه أَيْضا وَردت للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيح. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الْقشيرِي: لَا أعلم هَل هِيَ مُخْتَصَّة أم لَا؟ قلت: يُرِيد القَاضِي بِالصَّحِيحِ مَا أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: (فأنطلق تَحت الْعَرْش فأقع سَاجِدا) ، وَفِيه: (فَيُقَال يَا مُحَمَّد أَدخل من أمتك من لَا حِسَاب عَلَيْهِ من الْبَاب الْأَيْمن من أَبْوَاب الْجنَّة) ، وَشبهه من الْأَحَادِيث. الثَّالِثَة: قوم استوجبوا النَّار فَيشفع فيهم نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عدم دُخُولهمْ فِيهَا، قَالَ القَاضِي: وَهَذِه أَيْضا يشفع فِيهَا نَبينَا مُحَمَّد،

<<  <  ج: ص:  >  >>