للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(وَذَلِكَ من نبأ جَاءَنِي ... وخبرته عَن أبي الْأسود)

قَوْله: (سَاعَة من نَهَار) أَرَادَ بِهِ مِقْدَارًا من الزَّمَان من يَوْم الْفَتْح وَهُوَ زمَان الدُّخُول فِيهَا، وَلَا يعلم من الحَدِيث إِبَاحَة عضد الشّجر لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ السَّاعَة. قَوْله: (حرمتهَا) أَي الحكم الَّذِي فِي مُقَابلَة الْإِبَاحَة المستفادة من لفظ الْإِذْن، وَلَفظ الْيَوْم يُطلق وَيُرَاد بِهِ يَوْمك الَّذِي أَنْت فِيهِ. أَي: من يَوْم وَقت طُلُوع الشَّمْس إِلَى غُرُوبهَا، وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الزَّمَان الْحَاضِر الْمَعْهُود، وَقد يكون أَكثر من يَوْم وَاحِد وَأَقل، وَكَذَا حكم الأمس. فَإِن قلت: مَا المُرَاد بِهِ هَهُنَا؟ قلت: الظَّاهِر أَنه الْحَاضِر وَيحْتَمل أَيْضا الْمَعْنى الآخر أَي مَا بَين الطُّلُوع إِلَى الْغُرُوب. وَتَكون حينئذٍ اللَّام للْعهد من يَوْم الْفَتْح، إِذْ عود حرمتهَا كَانَ فِي يَوْم الْفَتْح لَا فِي غَيره الَّذِي هُوَ يَوْم صُدُور هَذَا القَوْل، وَكَذَا اللَّام فِي الأمس يكون معهوداً من أمس يَوْم الْفَتْح. قَوْله: (مَا قَالَ عَمْرو) أَي فِي جوابك، فَقَالَ أَبُو شُرَيْح: قَالَ، أَي عَمْرو: أَنا اعْلَم مِنْك: قَالَ ابْن بطال: مَا قَالَه لَيْسَ بِجَوَاب لِأَنَّهُ لم يخْتَلف مَعَه فِي أَن من أصَاب حدا فِي غير الْحرم ثمَّ لَجأ إِلَى الْحرم هَل يُقَام عَلَيْهِ؟ وَإِن مَا أنكرهُ عَلَيْهِ أَبُو شُرَيْح بَعثه الْخَيل إِلَى مَكَّة واستباحته حرمتهَا بِنصب الْحَرْب عَلَيْهَا، فحاد عَمْرو عَن الْجَواب، وَاحْتج أَبُو شُرَيْح بِعُمُوم الحَدِيث، وَذهب إِلَى أَن مثله لَا يجوز أَن يستباح نَفسه وَلَا ينصب الْحَرْب عَلَيْهَا بِقِتَال بَعْدَمَا حرمهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: لما سمع عَمْرو ذَلِك رده بقوله: أَنا أعلم، وَيَعْنِي: إِن صَحَّ سماعك وحفظك لَكِن مَا فهمت الْمَعْنى المُرَاد من الْمُقَاتلَة، فَإِن ذَلِك التَّرَخُّص كَانَ بِسَبَب الْفَتْح عنْوَة وَلَيْسَ بِسَبَب قتل من اسْتَحَقَّه خَارج الْحرم، وَالَّذِي أَنا بصدده من الْقَبِيل الثَّانِي لَا من الأول، فَكيف تنكر عَليّ؟ فَهُوَ من القَوْل بِالْمُوجبِ، يَعْنِي: الْجَواب مُطَابق وَلَيْسَ مجاوبة من غير سُؤَاله. قلت: كَونه جَوَابا على اعْتِقَاد عَمْرو فِي ابْن الزبير، وَالله اعْلَم، وَقد شنع عَلَيْهِ ابْن حزم فِي ذَلِك فِي (الْمحلى) فِي كتاب الْجِنَايَات، فَقَالَ: لَا كَرَامَة للئيم الشَّيْطَان الشرطي الْفَاسِق، يُرِيد أَن يكون أعلم من صَاحب رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَهَذَا الْفَاسِق هُوَ العَاصِي لله وَلِرَسُولِهِ وَمن وَالَاهُ أَو قَلّدهُ، وَمَا حَامِل الخزي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة إلَاّ هُوَ وَمن أمره وَصوب قَوْله، وَكَأن ابْن حزم إِنَّمَا ذكر ذَلِك لِأَن عمرا ذكر ذَلِك عَن اعْتِقَاده فِي ابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا.

وَقَالَ ابْن بطال اخْتلف الْعلمَاء فِي الصَّحَابِيّ إِذا روى الحَدِيث هَل يكون أولى بتأويله مِمَّن يَأْتِي بعده أم لَا؟ فَقَالَت طَائِفَة تَأْوِيل الصَّحَابِيّ أولى لِأَنَّهُ الرَّاوِي للْحَدِيث، وَهُوَ أعلم بمخرجه وَسَببه. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يلْزم تَأْوِيله إِذا لم يصب التَّأْوِيل. وَقَالَ الْمَازرِيّ فِي (شرح كتاب الْبُرْهَان) : مُخَالفَة الرَّاوِي لما رَوَاهُ على أَقسَام: مُخَالفَة بِالْكُلِّيَّةِ، وَمُخَالفَة ظَاهِرَة على وَجه التَّخْصِيص، وَتَأْويل مُحْتَمل أَو مُجمل. وكل هَذِه الْأَقْسَام فِيهَا الْخلاف. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: مَذْهَب الشَّافِعِي اتِّبَاع رِوَايَته لَا عمله، وَمذهب أبي حنيفَة اتِّبَاع عمله لَا رِوَايَته، فَإِذا كَانَ الحَدِيث عَاما فَهَل يخص بِعَمَل رَاوِيه، وَكَذَا إِذا كَانَ لفظ الحَدِيث مُجملا فَصَرفهُ الرَّاوِي إِلَى أحد محتملاته، هَل يُصَار إِلَى مذْهبه؟ فَفِي ذَلِك خلاف. وَقَالَ الْخَطِيب: ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي أَنه إِن كَانَ تَأْوِيل الرَّاوِي يُخَالف ظَاهر الحَدِيث رَجَعَ إِلَى الحَدِيث، وَإِن كَانَ أحد محتملاته الظَّاهِرَة رَجَعَ إِلَيْهِ، وَمثله إِمَام الْحَرَمَيْنِ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الذَّهَب بِالذَّهَب رَبًّا إلَاّ هَا وَهَا) ، حمله ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، على التَّقَابُض فِي الْمجْلس، وَحَدِيث ابْن عمر: (البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا) حمله ابْن عمر على فرقة الْأَبدَان، وَذكر الْحَنَفِيَّة حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، فِي ولوغ الْكَلْب سبعا، وَأَن مَذْهَب أبي هُرَيْرَة جَوَاز الِاقْتِصَار على الثَّلَاث. وَأَن السَّبع مَنْدُوبَة. وَقَالَ الْمَازرِيّ، وَغَيره: يَنْبَغِي أَن يعد حَدِيث أبي هُرَيْرَة من بَاب الْمُخَالفَة الَّتِي هِيَ بِمَعْنى النّسخ لَا بِمَعْنى التَّخْصِيص، فَإِن الِاقْتِصَار على الثَّلَاث مُخَالفَة للعدد الْمَحْدُود وَهُوَ السَّبع. قلت: إِنَّمَا خَالف أَبُو هُرَيْرَة الْعدَد السَّبع لثُبُوت انتساخه عِنْده، وَالْحمل عَلَيْهِ تَحْسِين الظَّن فِي حق الصَّحَابِيّ. وَقَالَ الْمَازرِيّ: وَيَنْبَغِي أَن يكون مثله حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَقَول أبي القعيس لَهَا: أتحتجبين مني وَأَنا عمك؟ قَالَت: كَيفَ ذَلِك؟ فَقَالَ: أَرْضَعتك امْرَأَة أخي بِلَبن أخي. قَالَت: فَسَأَلت عَن ذَلِك رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم: (فَقَالَ: صدق أَفْلح إيذني لَهُ) فروته وأفتته بِخِلَافِهِ، فَكَانَ يدْخل عَلَيْهَا من أرضعه أخواتها وَبَنَات أُخْتهَا، وَلَا يدْخل عَلَيْهَا من أرضعه نسَاء إخوتها. وَلم يحرم بِلَبن الْفَحْل هِيَ وَابْن عمر وَابْن الزبير وَالنَّخَعِيّ وَابْن الْمسيب وَالقَاسِم وَأَبُو سَلمَة وَأهل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا بِأَن عَائِشَة روته وَلم تعْمل بِهِ وَلم يَأْخُذ بِهِ الْكُوفِيُّونَ وَلَا الشَّافِعِي وَلَا التفتوا إِلَى تَأْوِيلهَا، وَأخذُوا بحديثها وافتوا بِتَحْرِيم لبن

<<  <  ج: ص:  >  >>