للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الْفَحْل. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي بَرِيرَة، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيرهَا بعد أَن اشترتها عَائِشَة وأعتقتها، وَأَن ابْن عَبَّاس يُفْتِي أَن بيعهَا طَلَاق، وَمَا رَوَاهُ مُخَالف لفتياه، لِأَنَّهُ لَو كَانَ بيعهَا طَلَاقا لم يُخَيّر وَهِي مُطلقَة؟ وروت عَائِشَة، قَالَت: فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ فزيد فِي صَلَاة الْحَضَر وأقرت صَلَاة السّفر، وَكَانَت عَائِشَة تتمّ. فَترك الْكُوفِيُّونَ وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيل قَوْلهَا وَأخذُوا بحديثها، وَقَالُوا: قصر الصَّلَاة فِي السّفر فَرِيضَة، وَرَوَاهُ أَشهب عَن مَالك، وروى عَنهُ أَبُو مُصعب أَنه سنة، وَذهب جمَاعَة وَالشَّافِعِيّ إِلَى التَّخْيِير بَين الْقصر والإتمام، وَالله اعْلَم.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه.

الأول: فِي قَول أبي شُرَيْح: (ائْذَنْ لي أَيهَا الْأَمِير) حُسن التلطف فِي الْإِنْكَار لَا سِيمَا مَعَ الْمُلُوك فِيمَا يُخَالف مقصودهم، لِأَن التلطف بهم أدعى لقبولهم لَا سِيمَا من عرف مِنْهُ بارتكاب هَوَاهُ، وَأَن الغلظة عَلَيْهِم قد تكون سَببا لإثارة فتْنَة ومعاندة.

الثَّانِي: فِيهِ وَفَاء أبي شُرَيْح، رَضِي الله عَنهُ، بِمَا أَخذه الله على الْعلمَاء من الْمِيثَاق فِي تَبْلِيغ دينه ونشره حَتَّى يظْهر، وَقد روى ابْن إِسْحَاق فِي آخِره أَنه قَالَ لَهُ عَمْرو بن سعيد: نَحن أعلم بحرمتها مِنْك، فَقَالَ لَهُ أَبُو شُرَيْح: إِنِّي كنتُ شَاهدا وكنتَ غَائِبا، وَقد أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يبلغ شاهدُنا غائبنا، وَقد أبلغتك فَأَنت وشأنك. وَقَالَ ابْن بطال: كل من خاطبه النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، بتبليغ الْعلم من كَانَ فِي زَمَنه فالتبليغ عَلَيْهِ مُتَعَيّن، وَأما من بعدهمْ فالتبليغ عَلَيْهِم فرض كِفَايَة. قلت: فِيهِ نظر، فقد ذكر أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ أَن التَّبْلِيغ عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فرض كِفَايَة إِذا قَامَ بِهِ وَاحِد سقط عَن البَاقِينَ، وَقد كَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَالْحكم لَا يبوح بِهِ فِي النَّاس، لَكِن يخبر بِهِ من حَضَره ثمَّة على لِسَان أُولَئِكَ إِلَى مَن ورَاءهم قوما بعد قوم، قَالَ: فالتبليغ فرض كِفَايَة والإصغاء فرض عين، والوعي وَالْحِفْظ يترتبان على معنى مَا يستمع بِهِ، فَإِن كَانَ مَا يَخُصُّهُ تعين عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ يتَعَلَّق بِهِ وَبِغَيْرِهِ كَانَ الْعَمَل فرض عين، والتبليغ فرض كِفَايَة، وَذَلِكَ عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ، وَلَا يلْزمه أَن يَقُول ابْتِدَاء وَلَا بعده، فقد كَانَ قوم من الصَّحَابَة يكثرون الحَدِيث: قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فحبسهم عمر، رَضِي الله عَنهُ، حَتَّى مَاتَ وهم فِي سجنه. هَذَا آخر كَلَامه.

الثَّالِث: اسْتدلَّ بقوله: (لَا يحل لأحد يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر) الحَدِيث، بَعضهم على أَن الْكفَّار غير مخاطبين بِفُرُوع الشَّرِيعَة، وَالصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ خِلَافه. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا مَفْهُوم لَهُ، وَقد اسْتعْمل منطوقه بِتَحْرِيم الْقِتَال على الْمُؤمن فِيهَا.

الرَّابِع: اسْتدلَّ بَعضهم بقوله: (أَن يسفك بهَا دَمًا) على تَحْرِيم الْقِتَال بِمَكَّة، وَهُوَ الَّذِي يدل عَلَيْهِ السِّيَاق، وَهُوَ قَوْله: (فَإِن أحد ترخص) الخ. وَقَوله فِي بعض طرق الحَدِيث: (وَإنَّهُ لم يحل الْقِتَال لأحد قبلي) ، وَالضَّمِير فِي: إِنَّه، للشأن. وَهَذِه الْأَحَادِيث ظَاهرهَا يدل على أَن حكم الله تَعَالَى أَن لَا يُقَاتل من كَانَ بِمَكَّة، ويؤمن من استجار بهَا وَلَا يتَعَرَّض لَهُ، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَغَيره فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا إِنَّا جعلنَا حرما آمنا} (العنكبوت: ٦٧) وَكَانَت عَادَة الْعَرَب احترام مَكَّة. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: من خَصَائِص الْحرم أَن لَا يحارب أَهله، فَإِن بغوا على أهل الْعدْل، قَالَ بعض الْفُقَهَاء: يحرم قِتَالهمْ ويضيقوا عَلَيْهِم حَتَّى يرجِعوا إِلَى الطَّاعَة. وَقَالَ جُمْهُور الْفُقَهَاء: يُقَاتلُون على بغيهم إِذا لم يُمكن ردهم إلَاّ بِالْقِتَالِ، لِأَن قتال أهل الْبَغي من حُقُوق الله تَعَالَى الَّتِي لَا تجوز إضاعتها، فحفظها فِي الْحرم أولى من إضاعتها. قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَقد نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي كتاب: اخْتِلَاف الحَدِيث، فِي (الْأُم) . وَأجَاب الشَّافِعِي عَن الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بِأَن التَّحْرِيم يعود إِلَى نصب الْقِتَال وقتالهم بِمَا يعم كالمنجنيق وَغَيره إِذا لم يُمكن إصْلَاح الْحَال بِدُونِهِ، بِخِلَاف مَا إِذا تحصن الْكفَّار بِبَلَد آخر، فَإِنَّهُ يجوز قِتَالهمْ على كل وَجه بِكُل شَيْء. وَقَالَ الْقفال، من أَصْحَاب الشَّافِعِي، فِي (شرح التَّلْخِيص) فِي أول كتاب النِّكَاح: لَا يجوز الْقِتَال بِمَكَّة، وَلَو تحصنت جمَاعَة من الْكفَّار فِيهَا لم يجز قِتَالهمْ. قَالَ النَّوَوِيّ: الَّذِي قَالَه الْقفال غلط، نبهت عَلَيْهِ. قلت: بل هُوَ مُوَافق لِلْقَوْلِ الأول الَّذِي حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ. وَظَاهر الحَدِيث يعضده، فَإِن قَوْله: (لَا يحل لأحد) نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي فتعم.

الْخَامِس: اسْتدلَّ أَبُو حنيفَة بقوله: (لَا يحل لمن يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يسفك بهَا دَمًا) على أَن الملتجىء إِلَى الْحرم لَا يقتل لِأَنَّهُ عَام يدْخل فِيهِ هَذِه الصُّورَة، وَحكى ابْن بطال اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيمَن أصَاب حدا من قتل أَو زنا أَو سَرقَة، فَقَالَ ابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَالشعْبِيّ: إِن إصابه فِي الْحرم أقيم عَلَيْهِ وَإِن أَصَابَهُ فِي غير الْحرم لَا يُجَالس وَلَا يدانى حَتَّى يخرج فيقام عَلَيْهِ، لِأَن الله تَعَالَى جعله آمنا دون غَيره فَقَالَ: {وَمن دخله كَانَ آمنا} (آل عمرَان: ٩٧) وَقَالَ آخَرُونَ: إِذا أَصَابَهُ فِي غير الْحرم ثمَّ لَجأ إِلَيْهِ يخرج ويقام عَلَيْهِ الْحَد، وَلم يحضروا مُجَالَسَته وَلَا مسامعته، وَهُوَ مَذْهَب ابْن الزبير وَالْحسن وَمُجاهد. وَقَالَ آخَرُونَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>