الْغَيْب. قَوْله: (مَمْلُوءَة) صفة الطست، وَقد ذكرنَا أَنه يؤنث بِاعْتِبَار الْآنِية. قَوْله: (إِيمَانًا) نصب على التَّمْيِيز، وَزَاد فِي بَدْء الْخلق: وَحكمه، وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ أَن الطست كَانَ فِيهِ شَيْء تحصل بِهِ زِيَادَة فِي كَمَال الْإِيمَان وَكَمَال الْحِكْمَة. فَإِن قلت: الملء الْمَذْكُور حَقِيقَة أم مجَاز؟ قلت: يجوزان أَن يكون حَقِيقَة، لِأَن تجسد الْمعَانِي جَائِز كَمَا جَاءَ فِي وزن الْأَعْمَال يَوْم الْقِيَامَة، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: لَعَلَّ ذَلِك من بَاب التَّمْثِيل، إِذْ تَمْثِيل الْمعَانِي قد وَقع كثيرا كَمَا مثلت لَهُ الْجنَّة وَالنَّار فِي عرض الْحَائِط، وَفَائِدَته كشف الْمَعْنَوِيّ بالمحسوس. قَوْله: (فَغسل قلبِي) ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: فاستخرج قلبِي فَغسل بِمَاء زَمْزَم، وَفِيه فَضِيلَة مَاء زَمْزَم على جَمِيع الْمِيَاه فَإِن قلت: لِمَ لم يغسلهُ بِمَاء الْجنَّة؟ قلت: لما اجْتمع فِي زَمْزَم من كَون أصل مَائِهَا من الْجنَّة ثمَّ اسْتَقر فِي الأَرْض فَأُرِيد بذلك بَقَاء بركَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الأَرْض، وَيُقَال: لبَقَاء بركَة إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ ركضه. قَوْله: (حشي) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْقلب (ثمَّ أُعِيد) أَي قلبه إِلَى حَالَته الأولى قَوْله (ثمَّ اتيت) على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي أَنه أَتَى بِدَابَّة فَلم لَم تطوله الأَرْض؟ قلت: إِنَّمَا فعل ذَلِك تأنيساً لَهُ بِالْعَادَةِ فِي مقَام خرق الْعَادة، وَأَيْضًا أَن الْملك إِذا طلب من يُحِبهُ يبْعَث إِلَيْهِ مركوباً، وَوَقع فِي خاطري من الْفَيْض الإل هِيَ أَن طي الأَرْض يشْتَرك فِيهِ الْأَوْلِيَاء بِخِلَاف المركوب الَّذِي يقطع الْمُسَاقَاة الْبَعِيدَة براكبه أسْرع من طرفَة الْعين، فَإِنَّهُ مَخْصُوص بالأنبياء، عَلَيْهِم السَّلَام. قَوْله: (دون الْبَغْل وَفَوق الْحمار) ، الْحِكْمَة فِي كَون هَذِه الدَّابَّة بِهَذِهِ الصّفة الْإِشَارَة إِلَى الْإِسْرَاع الشَّديد بِدَابَّة لَا تُوصَف بذلك فِي الْعَادة، أَو بِاعْتِبَار أَن الرّكُوب كَانَ فِي سلم وَأمن لَا فِي حَرْب وَخَوف. قَوْله: (أَبيض) صفة دَابَّة والتذكير بِاعْتِبَار أَنَّهَا الْبراق أَو بِاعْتِبَار أَنَّهَا المركوب وَكَونه أَبيض بِاعْتِبَار أَنه أصل الألوان، أَو بِاعْتِبَار أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يحب الْبيَاض. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ) أَي: لأنس، والجارود فَاعل. قَالَ. قَوْله: (هُوَ الْبراق) أَي: الدَّابَّة الْمَذْكُورَة المتصفة بِالصّفةِ الْمَذْكُورَة هُوَ الْبراق، بهمز مقدرَة وتذكير الضَّمِير بِاعْتِبَار لفظ الْبراق، وَإِنَّمَا قَالَ الْجَارُود: هُوَ الْبراق لِأَن أنسا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لم يتَلَفَّظ بِلَفْظ الْبراق فِي رِوَايَة قَتَادَة عَنهُ، قَوْله: يَا أَبَا حَمْزَة، خطاب لأنس لِأَنَّهُ كنيته. قَوْله: (يضع خطوه) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَهُوَ الْمرة، وبالضم بَعْدَمَا بَين الْقَدَمَيْنِ فِي الْمَشْي. قَوْله: (طرفه) بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وبالفاء وَهُوَ نظر عينه فَإِنَّهُ يضع خطوه عِنْد مُنْتَهى مَا يرى يبصره، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ يمشي على وَجه الأَرْض، وَلَكِن بِالْمَشْيِ الْمَوْصُوف.
وروى ابْن سعد عَن الْوَاقِدِيّ بأسانيده: لَهُ جَنَاحَانِ، فَهَذَا يدل على أَنه يطير بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، وَيدل على وَصفه بِالْمَشْيِ مَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود عِنْد أبي يعلى، وَالْبَزَّار: إِذا أَتَى على جبل ارْتَفَعت رِجْلَاهُ فَإِذا هَبَط ارْتَفَعت يَدَاهُ، وَعَن ابْن عَبَّاس رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ بِسَنَد ضَعِيف: لَهُ خد كخد الْإِنْسَان وَعرف كالفرس وقوائم كَالْإِبِلِ وأظلاف وذنب كالبقر وَكَانَ صَدره ياقوتة حَمْرَاء. قلت: الْبراق، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة مُشْتَقّ من البريق وَهُوَ اللمعان سمي بِهِ لنصوع لَونه وَشدَّة بريقه، أَو هُوَ مُشْتَقّ من الْبَرْق، سمي بِهِ لشدَّة حركته وَسُرْعَة مَشْيه كالبرق، وَقَالَ ابْن أبي حَمْزَة: خص الْبراق بذلك إِشَارَة إِلَى الِاخْتِصَاص بِهِ لِأَنَّهُ لم ينْقل أَن أحدا ملكه بِخِلَاف غير جنسه من الدَّوَابّ. قلت: هَذَا يدل على أَن غير نَبينَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يركب الْبراق وَبِه قَالَ ابْن دحْيَة أَيْضا، وَلَكِن رد هَذَا بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة قَتَادَة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْلَة أسرِي بِهِ أَتَى بِالْبُرَاقِ مسرجاً مُلجمًا فاستصعب عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: مَا حملك على هَذَا؟ فوَاللَّه مَا ركبك خلق قطّ أكْرم على الله مِنْهُ. قَالَ: فَارْفض عرقاً. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن غَرِيب، وَصَححهُ ابْن حبَان، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَابْن مرْدَوَيْه: وَكَانَت تسخر للأنبياء، عَلَيْهِم السَّلَام، قبله، أَي: كَانَت الدَّابَّة الَّتِي تسمى بِالْبُرَاقِ تسخر للأنبياء قبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنَحْوه فِي حَدِيث أبي سعيد عِنْد ابْن إِسْحَاق، وَهَذَا يُصَرح على أَن الْبراق كَانَ معداً لركوب الْأَنْبِيَاء، وَجَاء أَن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما كَانَ يُرِيد زِيَارَة هَاجر وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وهما فِي مَكَّة كَانَ يركب الْبراق، ثمَّ الْحِكْمَة فِي نفرته مُخْتَلف فِيهَا، فَقَالَ ابْن بطال: بعد عَهده بالأنبياء وَطول الفترة بَين عِيسَى وَمُحَمّد، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ غَيره: قَالَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين شمس بِهِ الْبراق: لَعَلَّك يَا مُحَمَّد مسست الصَّفْرَاء الْيَوْم؟ يَعْنِي: الذَّهَب، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه مَا مَسهَا إلَاّ أَنه مرَّ بهَا. فَقَالَ: تَبًّا لمن يعبدك من دون اللهد، وَمَا شمس إلَاّ لذَلِك.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute