للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّمَا استصعب الْبراق تيهاً وزهواً بركوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَرَادَ جِبْرِيل استنطاقه، فَلذَلِك خجل وارفضَّ عرقاً من ذَلِك، وَقَرِيب من ذَلِك رَجْفَة الْجَبَل بِهِ حَتَّى قَالَ لَهُ: اثْبتْ، فَإِنَّمَا عَلَيْك نَبِي وصديق وشهيد، فَإِنَّهَا هزة الطَّرب لَا هزة الْغَضَب، وَسمع العَبْد الضَّعِيف من مشايخه الثقاة أَنه إِنَّمَا شمس بِهِ ليعده الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالركوب عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة، فَلَمَّا وعده بذلك قرو ذَلِك، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي التَّفْسِير فِي قَوْله تَعَالَى: {ولسوف يعطيك رَبك فترضى} (الضُّحَى: ٦) . أَن الله أعد لَهُ فِي الْجنَّة أَرْبَعِينَ ألف براق ترتع فِي مروج الْجنَّة.

قَوْله: (فَحملت عَلَيْهِ) على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: على الْبراق، وَذكر فِي (شرف الْمُصْطَفى) : كَانَ الَّذِي أمسك بركابه جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وبزمام الْبراق مِيكَائِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن قلت: لما ركب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْبراق مَا فعل جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام؟ قلت: وَقع فِي حَدِيث حُذَيْفَة عِنْد أَحْمد، قَالَ: أَتَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْبُرَاقِ فَلم يزَال ظَهره هُوَ وَجِبْرِيل حَتَّى انتهيا إِلَى بَيت الْمُقَدّس، قيل: هَذَا لم يسْندهُ حُذَيْفَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيحْتَمل أَنه قَالَه عَن اجْتِهَاد، وَيحْتَمل أَن يكون جِبْرِيل رافقه فِي السّير لَا فِي الرّكُوب، وَقَالَ ابْن دحْيَة وَغَيره: مَعْنَاهُ: وَجِبْرِيل قَائِد أَو سائق أَو دَلِيل، قَالَ: وَإِنَّمَا جزمنا بذلك لِأَن قصَّة الْمِعْرَاج كَانَت كَرَامَة للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا مدْخل لغيره فِيهَا، ورد عَلَيْهِ مَا قَالَه بِمَا روى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث ابْن مَسْعُود أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حمله على الْبراق رديفا لَهُ وَفِي رِوَايَة الْحَارِث فِي مُسْنده اتى بِالْبُرَاقِ فَرَكبهُ خلف جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَسَار بهما، فَهَذَا صَرِيح فِي ركُوبه مَعَه، وَالله أعلم. قَوْله: (فَانْطَلق بِي جِبْرِيل) وَفِي رِوَايَته الْمُتَقَدّمَة: (فَانْطَلَقت مَعَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام) وَلَا مُغَايرَة بَينهمَا، وَفِي حَدِيث أبي ذَر فِي أول الصَّلَاة: (ثمَّ أَخذ بيَدي فعرج بِي) وَظَاهر هَذَا يدل على أَن جِبْرِيل كَانَ دَلِيلا لَهُ فِيمَا قصد لَهُ. قلت: كَونه دَلِيلا لَا يُنَافِي ركُوبه مَعَه. قَوْله: (حَتَّى أَتَى السَّمَاء الدُّنْيَا) ، ظَاهره يدل على أَنه اسْتمرّ على الْبراق حَتَّى عرج إِلَى السَّمَاء وَتمسك بِهِ من زعم أَن الْمِعْرَاج كَانَ فِي لَيْلَة غير لَيْلَة الْإِسْرَاء إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَكَانَ فِي لَيْلَة الْمِعْرَاج على مِعْرَاج وَهُوَ سلم وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) من حَدِيث طَوِيل، وَفِيه: فَإِذا أَنا بِدَابَّة كالبغل مُضْطَرب الْأُذُنَيْنِ يُقَال لَهُ: الْبراق، وَكَانَت الْأَنْبِيَاء تركبه قبلي، فركبته ثمَّ دخلت أَنا وَجِبْرِيل بَيت الْمُقَدّس فَصليت ثمَّ أتيت بالمعراج، وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: فأصعدن صَاحِبي فِيهِ حَتَّى انْتهى بِي إِلَى بَاب من أَبْوَاب السَّمَاء ... الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة كَعْب: فَوضعت لَهُ مرقاة من فضَّة ومرقاة من ذهب حَتَّى عرج هُوَ وَجِبْرِيل، وَفِي (شرف الْمُصْطَفى) فِي حَدِيث أبي سعيد: أَنه أُتِي بالمعراج من جنَّة الفردوس، وَأَنه منضد بِاللُّؤْلُؤِ وَعَن يَمِينه مَلَائِكَة وَعَن يسَاره مَلَائِكَة، وَفِي رِوَايَة ثَابت عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: أتيت بِالْبُرَاقِ فركبته حَتَّى أتيت بَيت الْمُقَدّس فربطته بالحلقة الَّتِي كَانَت ترْبط بهَا الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، ثمَّ دخلت الْمَسْجِد فَصليت فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ خرجت ... فَذكر الْقِصَّة. قَالَ: ثمَّ عرج بِي إِلَى السَّمَاء. فَإِن قلت: أنكر حُذَيْفَة رِوَايَة ثَابت: فربطته بالحلقة، فروى أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث حُذَيْفَة، قَالَ: تحدثون أَنه ربطه، أخافَ أَن يفر مِنْهُ وَقد سخر لَهُ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة؟ قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْمُثبت مقدم على النَّافِي لِأَن الْمُثبت لَهُ زِيَادَة علم على من نفي فَهُوَ أولى بِالْقبُولِ، وروى الْبَزَّار من حَدِيث بُرَيْدَة: لما كَانَ لَيْلَة أسرِي بِهِ جَاءَ جِبْرِيل الصَّخْرَة الَّتِي بِبَيْت الْمُقَدّس فَوضع إصبعه فِيهَا فخرقها فَشد بهَا الْبراق. فَإِن قلت: هَل للباب الَّذِي دخل مِنْهُ جِبْرِيل وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من أَبْوَاب سَمَاء الدُّنْيَا اسْم؟ قلت: نعم، وروى الْبَيْهَقِيّ: حَتَّى أَتَى إِلَى بَاب من أَبْوَاب السَّمَاء يُقَال لَهُ: بَاب الْحفظَة وَعَلِيهِ ملك يُقَال لَهُ: إِسْمَاعِيل، تَحت يَده إثنا عشر ألف ملك. قَوْله: (فَاسْتَفْتَحَ) ، أَي: طلب فتح الْبَاب. قَوْله: (فَقيل: من هَذَا؟) أَي: قَالَ قَائِل من دَاخل الْبَاب: من هَذَا الَّذِي يستفتح الْبَاب؟ قَوْله: (قيل: جِبْرِيل) أَي: قَالَ قَائِل من خَارج الْبَاب مِمَّن كَانَ مَعَ جِبْرِيل وَالنَّبِيّ عَلَيْهِمَا السَّلَام: هُوَ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (من مَعَك) يدل على أَنهم أحسوا مَعَه برفيق وإلَاّ لَكَانَ السُّؤَال بِلَفْظ أَمَعَك أحد؟ فَإِن قلت: من أَيْن لَهُم هَذَا الإحساس؟ قلت: قَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون بمشاهدة لكَون السَّمَاء شفافة، وَفِيه نظر، لِأَن الْأَمر لَو كَانَ كَذَلِك لما قَالُوا: من هَذَا، حِين استفتح جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: إِن إحساسهم بذلك كَانَ بِزِيَادَة أنوار ظَهرت لَهُم دلّت على أَن جِبْرِيل لم يكن وَحده. قَوْله: (قَالَ مُحَمَّد) أَي: قَالَ جِبْرِيل: معي مُحَمَّد، وَفِيه دَلِيل على أَن الِاسْم أولى وأوضح فِي التَّوْضِيح من

<<  <  ج: ص:  >  >>