للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (أَكثر أَبُو هُرَيْرَة) أَي من رِوَايَة الحَدِيث. وَهُوَ من بَاب حِكَايَة كَلَام النَّاس أَو وضع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر، إِذْ حق الظَّاهِر أَن يَقُول: أكثرت، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْبيُوع من طَرِيق شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ: (أَكثر أَبُو هُرَيْرَة من الحَدِيث) . وَفِي رِوَايَته وَفِي الْمُزَارعَة من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ هُنَا، زِيَادَة وَهِي: (وَيَقُولُونَ مَا للمهاجرين وَالْأَنْصَار لَا يحدثُونَ مثل أَحَادِيثه؟) وَهَذِه الزِّيَادَة تدلك على النُّكْتَة فِي ذكر أبي هُرَيْرَة الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. قَوْله: (لَوْلَا آيتان) المُرَاد من الْآيَتَيْنِ {إِن الَّذين يكتمون} (الْبَقَرَة: ١٥٩ و ١٧٤) إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ، وَالْمعْنَى: لَوْلَا أَن الله تَعَالَى ذمّ الكاتمين للْعلم لما حدثتكم أصلا، لَكِن لما كَانَ الكتمان حَرَامًا وَجب الْإِظْهَار والتبليغ، فَلهَذَا حصل مني الْإِكْثَار لِكَثْرَة مَا عِنْدِي مِنْهُ. ثمَّ ذكر سَبَب الْكَثْرَة بقوله: (إِن إِخْوَاننَا) إِلَى آخِره. قَوْله: (ثمَّ يَتْلُو) أَي: قَالَ الْأَعْرَج: ثمَّ يَتْلُو أَبُو هُرَيْرَة، وَذكر بِلَفْظ الْمُضَارع استحضارا لصورة التِّلَاوَة كَأَنَّهُ فِيهَا. قَوْله: (إِن إِخْوَاننَا) : الإخوان جمع أَخ، هَذَا يدل على أَن أصل أَخ: أَخُو، بِالتَّحْرِيكِ، وَيجمع أَيْضا على: آخاء، مثل: آبَاء. والذاهب مِنْهُ وَاو. وعَلى: إخْوَة بِالضَّمِّ عَن الْفراء، وَفِيه سؤالان: الأول: كَانَ حق الظَّاهِر أَن يَقُول: إِن إخوانه، ليرْجع الضَّمِير إِلَى أبي هُرَيْرَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ عدل عَنهُ لغَرَض الِالْتِفَات، وَهُوَ فن من محَاسِن الْكَلَام. الثَّانِي: قَالَ: إِخْوَاننَا، وَلم يقل: إخْوَانِي. وَأجِيب: لِأَنَّهُ قصد نَفسه وَأَمْثَاله من أهل الصّفة، وَالْمرَاد الإخوان فِي الْإِسْلَام لَا فِي النّسَب، وَالْمرَاد من: (الْمُهَاجِرين) ، الَّذين هَاجرُوا من مَكَّة إِلَى رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَمن (الْأَنْصَار) أَصْحَاب الْمَدِينَة الَّذين آووا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ونصروه بِأَنْفسِهِم وَأَمْوَالهمْ. قَوْله: (الْعَمَل فِي أَمْوَالهم) يُرِيد بِهِ: الزِّرَاعَة وَالْعَمَل فِي الْغِيطَان. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كَانَ يشغلهم عمل أَرضهم) . وَفِي رِوَايَة ابْن سعد: (كَانَ يشغلهم الْقيام على أراضيهم) . قَوْله: (وَإِن أَبَا هُرَيْرَة) فِيهِ الْتِفَات أَيْضا، لِأَن حق الظَّاهِر أَن يَقُول: وَإِنِّي. قَوْله: (بشبع بَطْنه) يَعْنِي أَنه كَانَ يلازم قانعا بالقوت لَا مشتغلاً بِالتِّجَارَة وَلَا بالزارعة، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْبيُوع: (كنت امْرأ مِسْكينا من مَسَاكِين الصّفة) . قَوْله: (ويحضر) بِالرَّفْع عطفا على قَوْله: (يلْزم) ، وَيجوز بِالنّصب أَيْضا على رِوَايَة من روى: ليشبع بَطْنه، بلام كي، و: يشْبع، بِصُورَة الْمُضَارع إِن صحت هَذِه الرِّوَايَة. قَوْله: (مَا لَا يحْضرُون) أَي: من أَحْوَال الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، و (يحفظ مَا لَا يحفظون) من أَقْوَاله، وَهَذَا إِشَارَة إِلَى المسموعات وَذَاكَ إِشَارَة إِلَى المشاهدات. لَا يُقَال: هَذَا الحَدِيث يُعَارضهُ مَا تقدم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (مَا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد أَكثر حَدِيثا عَنهُ مني إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب وَلَا أكتب) ، لأَنا نقُول: إِن عبد الله كَانَ أَكثر تحملاً، وَأَبُو هُرَيْرَة كَانَ أَكثر رِوَايَة. فَإِن قلت: كَيفَ يكون الْأَكْثَر تحملاً وَهُوَ دَاخل تَحت عُمُوم الْمُهَاجِرين؟ قلت: هُوَ أَكثر من جِهَة ضَبطه بِالْكِتَابَةِ وتقييده بهَا، وَأَبُو هُرَيْرَة أَكثر من جِهَة مُطلق السماع.

بَيَان استنباط الْأَحْكَام: فِيهِ: حفظ الْعلم والمواظبة على طلبه. وَفِيه: فَضِيلَة أبي هُرَيْرَة وَفضل التقلل من الدُّنْيَا وإيثار طلب الْعلم على طلب المَال. وَفِيه: جَوَاز الْإِخْبَار عَن نَفسه بفضيلته إِذا اضْطر إِلَى ذَلِك وَأمن الْإِعْجَاب. وَفِيه: جَوَاز إكثار الْأَحَادِيث وَجَوَاز التِّجَارَة وَالْعَمَل وَجَوَاز الِاقْتِصَار على الشِّبَع، وَقد تكون مندوبات، وَقد تكون وَاجِبَات بِحَسب الْأَشْخَاص والأوقات.

١١٩ - حدّثنا أحْمَدُ بْنُ أبِي بَكْرٍ أبُو مُصْعَبٍ قالَ: حدّثنا مَحَمَّدُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ دِينَارٍ عَنِ ابنِ أبي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ اللَّهِ! إنِّي أسْمعُ مِنْكَ حَدِيثا كَثِيرا أنُسَاهُ، قالَ: (ابْسُطْ رِدَاءَكَ) فَبَسَطْتُهُ، قالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قالَ: (ضمَّهُ) ، فَضَممْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئا بَعْدَهُ.

مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة بطرِيق الِالْتِزَام، والْحَدِيث الْمَاضِي بطرِيق الْمُطَابقَة، وَأَحَادِيث الْبَاب ثَلَاثَة كلهَا عَن أبي هُرَيْرَة، والْحَدِيث الثَّالِث يدل على أَنه لم يحدث بِجَمِيعِ محفوظه. ودلالته على التَّرْجَمَة بالمطابقة.

بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: أَحْمد بن أبي بكر، وَاسم أبي بكر: الْقَاسِم، وَقيل: زُرَارَة بن الْحَارِث بن زُرَارَة بن مُصعب بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، أَبُو مُصعب الزُّهْرِيّ الْعَوْفِيّ، قَاضِي الْمَدِينَة وعالمها، وَهُوَ أحد من حمل (الْمُوَطَّأ) عَن مَالك، روى عَنهُ السِّتَّة، لَكِن النَّسَائِيّ بِوَاسِطَة. وَأخرج لَهُ مُسلم حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب) فَقَط، قَالَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة: صَدُوق، مَاتَ سنة

<<  <  ج: ص:  >  >>