لَا تضعفوا بِسَبَب مَا جرى، وَهَذَا تَسْلِيَة من الله لرَسُوله وَلِلْمُؤْمنِينَ عَمَّا أَصَابَهُم يَوْم أحد، وأصل: لَا تهنوا: توهنوا، حذفت الْوَاو طرداً للباب لِأَنَّهَا حذفت فِي: يهن، أَصله يوهن، لوُقُوع الْوَاو بَين الْيَاء والكسرة، والوهن الضعْف، يُقَال: وَهن يهن، بِالْكَسْرِ فِي الْمُضَارع، وَيسْتَعْمل: وَهن لَازِما ومتعدياً، قَالَ تَعَالَى: {وَهن الْعظم مني} (مَرْيَم: ٤) . وَفِي الحَدِيث: (وهنتهم حمى يثرب) ، وَقَالَ الْفراء: يُقَال: وهنه الله وأوهنه، زَاد غَيره: ووهنه. قَوْله: (وَلَا تحزنوا) أَي: على ظُهُور أعدائكم وَمَا فاتكم من الْغَنِيمَة، وَكَانَ قد قتل يَوْمئِذٍ خَمْسَة من الْمُهَاجِرين، وهم: حَمْزَة، وَمصْعَب بن عُمَيْر صَاحب راية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعبد الله بن جحش ابْن عمَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعُثْمَان بن شماس، وَسعد مولى ابْن عتبَة، وَمن الْأَنْصَار سَبْعُونَ رجلا. قَوْله: (وَأَنْتُم الأعلون) وَهُوَ جمع: أَعلَى، أَي: بِالْحجَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَلكم الْغَلَبَة فِيمَا بعد. قَوْله: (إِن كُنْتُم مُؤمنين) أَي: إِذا كُنْتُم، وَقيل: إِذْ دمتم، على الْإِيمَان فِي الْمُسْتَقْبل. قَوْله: (إِن يمسكم قرح) الْآيَة، قَالَ رَاشد بن سعد: انْصَرف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم أحد كئيباً، وَجعلت الْمَرْأَة تجىء بابنها وأبيها وَزوجهَا مقتولين، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أهكذا تفعل برسولك؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَيُقَال: أقبل عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَوْمئِذٍ وَفِيه نَيف وَسِتُّونَ جِرَاحَة من طعنة وضربة ورمية، فَجعل، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يمسحها بِيَدِهِ وَهِي تلتئم بِإِذن الله كَأَن لم تكن. قَوْله: (إِن يمسسكم) ، من الْمس وَهُوَ الْإِصَابَة، والقرح بِالْفَتْح: الْجراح، واحدتها: قرحَة، وبالضم اسْم الْجراح، وبفتح الرَّاء مصدر: قرح يقرح، وَقَالَ الْكسَائي: الْقرح، بِالْفَتْح وَالضَّم وَاحِد، أَي: الْجراح، وَقَالَ الْفراء: هُوَ بِالْفَتْح مصدر قُرْحَته فَهُوَ نفس الْجراح، وبالضم الْأَلَم، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء، بِضَم الْقَاف وَالرَّاء على الِاتِّبَاع، وَالْمعْنَى وَالله أعلم: لَا تحزنوا إِن أَصَابَكُم جرح يَوْم أحد، فقد أصَاب الْمُشْركين مثله يَوْم بدر، وَمَعَ هَذَا إِن قَتْلَاكُمْ فِي الْجنَّة وقتلاهم فِي النَّار. قَوْله: (وَتلك الْأَيَّام) ، تِلْكَ مُبْتَدأ، وَالْأَيَّام خَبره، ونداولها فِي مَوضِع الْحَال، وَالْعَامِل فِيهَا معنى الْإِشَارَة، وَيجوز أَن يكون الْأَيَّام بَدَلا أَو عطف بَيَان، ونداولها الْخَبَر، وَالْمعْنَى: لَا تهنوا فالحرب سِجَال، وَأَنا أداول الْأَيَّام بَين النَّاس، فأديل الْكَافِر من الْمُؤمن تَغْلِيظًا للمحنة والابتلاء، وَلَو كَانَت الْغَلَبَة للْمُؤْمِنين لصاروا كالمضطرين، وَيُقَال: نديل عَلَيْكُم الْأَعْدَاء تَارَة وَإِن كَانَت الْعَاقِبَة لكم لما لنا فِي ذَلِك من الحكم، وَلِهَذَا قَالَ: {وليعلم الله الَّذين آمنُوا} (آل عمرَان: ١٤٠) . قَالَ ابْن عَبَّاس فِي مثل هَذَا: لنرى من يصبر على مناجزة الْأَعْدَاء. قَوْله: (ويتخذ مِنْكُم) ، أَي: وليتخذ مِنْكُم شُهَدَاء، يَعْنِي: نكرم نَاسا مِنْكُم بِالشَّهَادَةِ، يَعْنِي المستشهدين يَوْم أحد، وليتخذ مِنْكُم من يصلح للشَّهَادَة على الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة، وَقَالَ ابْن جريج: كَانَ الْمُسلمُونَ يَقُولُونَ: رَبنَا أرنا يَوْمًا كَيَوْم بدر نلتمس فِيهِ الشَّهَادَة، فَاتخذ الله مِنْهُم شُهَدَاء يَوْم أحد. قَوْله: (وَالله لَا يحب الظَّالِمين) ، أَي: الْمُشْركين. قَوْله: (وليمحص الله الَّذين آمنُوا) ، مَعْطُوف على قَوْله: (وليعلم الله) والتمحيص الطهير والتصفية، وَقيل: التمحيص الِابْتِلَاء والاختبار، وَالْمعْنَى: ليكفِّر الله عَن الْمُؤمنِينَ ذنوبهم إِن كَانَت لَهُم ذنُوب، وليرفع لَهُم دَرَجَات بِحَسب مَا أصيبوا بِهِ. قَوْله: (ويمحق الْكَافرين) ، أَي: يُهْلِكهُمْ، وَقيل: ينقصهم ويقللهم، يُقَال: محق الله الشَّيْء وامتحق وانمحق. قَوْله: (أم حسبتم) كلمة: أم، مُنْقَطِعَة، وَمعنى الْهمزَة فِيهَا الْإِنْكَار، وَالْمعْنَى: أحسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلم تبتلوا بِالْقِتَالِ والشدائد كَمَا دخل الَّذين قتلوا وثبتوا على ألم الْجراح؟ قَوْله: (وَلما يعلم الله) ، كلمة: لما، بِمَعْنى: لم إلَاّ أَن فِيهِ ضربا من التوقع، فَدلَّ على نفي الْجِهَاد فِيمَا مضى، وعَلى توقعه فِيمَا يسْتَقْبل. قَوْله: (وَيعلم الصابرين) ، قَالَ الزّجاج: الْوَاو، هُنَا بِمَعْنى: حَتَّى، أَي: حَتَّى يعلم صبرهم. وَقَرَأَ الْحسن بِكَسْر الْمِيم عطفا على الأول، وَمِنْهُم من قَرَأَ بِالضَّمِّ على تَقْدِير: وَهُوَ يعلم، وَحَاصِل الْمَعْنى: لَا يحصل لكم دُخُول الْجنَّة حَتَّى تبتلوا وَيرى الله مِنْكُم الْمُجَاهدين فِي سَبيله وَالصَّابِرِينَ على مقارعة الْأَعْدَاء. قَوْله: (وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت) ، قَالَ ابْن عَبَّاس: لما أخبر الله تَعَالَى، على لِسَان نبيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا فعل بشهدائهم يَوْم بدر من الْكَرَامَة رَغِبُوا فِي ذَلِك، فَأَرَاهُم يَوْم أحد فَلم يَلْبَثُوا أَن انْهَزمُوا، فَنزلت هَذِه الْآيَة أَي: {وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت} (آل عمرَان: ١٤٣) . أَي: الْقِتَال من قبل أَن تلقوهُ يَوْم أحد فقد رَأَيْتُمُوهُ يَوْمئِذٍ وَأَنْتُم تنْظرُون، يَعْنِي الْمَوْت فِي لمعان السيوف وحد الأسنة واشتباك الرماح وصفوف الرِّجَال لِلْقِتَالِ فَكيف انْهَزَمْتُمْ؟ فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ تمني الشَّهَادَة وَفِيه غَلَبَة الْكفَّار على الْمُسلمين؟ قلت: لِأَن غَرَض المتمني لَيْسَ إلاّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute