هَذَا التَّعْلِيق وَصله مُحَمَّد بن إِسْحَاق الفاكهي فِي (أَخْبَار مَكَّة) بِسَنَد صَحِيح إِلَى عَطاء بن أبي رَبَاح أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا بِالِانْتِفَاعِ بشعور النَّاس الَّتِي تحلق بِمني، وَلم يقف الْكرْمَانِي على هَذَا حَتَّى قَالَ: الظَّاهِر أَن عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح. قَوْله: (ان يتَّخذ) بِفَتْح: أَن، بَدَلا من الضَّمِير الْمَجْرُور فِي: بِهِ، كَمَا فِي قَوْله: مَرَرْت بِهِ الْمِسْكِين، أَي: لَا يرى بَأْسا باتخاذ الخيوط من الشّعْر. وَفِي بعض النّسخ لم يُوجد لفظ: بِهِ، وَهُوَ ظَاهر. قَوْله: الخيوط، جمع خيط، و: الحبال، جمع حَبل، وَالْفرق بَينهمَا بالرقة والغلظ، ويروى عَن عَطاء أَن نجس الشّعْر، وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة رد قَول الشَّافِعِي: إِن شعر الانسان إِذا فَارق الْجَسَد نجس، وَإِذا وَقع فِي المَاء نجسه، إِذْ لَو كَانَ نجسا لما جَازَ اتِّخَاذه خيوطاً وحبالاٌ. وَمذهب أبي حنيفَة أَنه طَاهِر، وَكَذَا شعر الْميتَة والأجزاء الصلبة الَّتِي لَا دم فِيهَا: كالقرون والعظم وَالسّن والحافر والظلف والخف وَالشعر والوبر وَالصُّوف والعصب والريش والأنفحة الصلبة، قَالَه فِي (الْبَدَائِع) . وَكَذَا من الْآدَمِيّ على الْأَصَح، ذكره فِي (الْمُحِيط) و (التُّحْفَة) وَفِي (قاضيخان) على الصَّحِيح: لَيست بنجسة عندنَا، وَقد وَافَقنَا على صوفها ووبرها وشعرها وريشها مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق والمزني، وَهُوَ مَذْهَب عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن وَحَمَّاد وَدَاوُد فِي الْعظم أَيْضا. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : حكى الْعَبدَرِي عَن الْحسن وَعَطَاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث: إِنَّهَا تنجس بِالْمَوْتِ، لَكِن تطهر بِالْغسْلِ. وَعَن القَاضِي ابي الطّيب: الشّعْر وَالصُّوف والوبر والعظم والقرن والظلف تحلها الْحَيَاة وتنجس بِالْمَوْتِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَب، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْمُزنِيّ والبويطي وَالربيع وحرملة عَن الشَّافِعِي، وروى ابراهيم الْبكْرِيّ عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه رَجَعَ عَن تنجيس شعر الْآدَمِيّ، وَحَكَاهُ أَيْضا الْمَاوَرْدِيّ عَن ابْن شُرَيْح عَن الْقَاسِم الْأنمَاطِي عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي، وَحكى الرّبيع الجيزي عَن الشَّافِعِي أَن الشّعْر تَابع للجلد يطهر بِطَهَارَتِهِ وينجس بِنَجَاسَتِهِ، قَالَ: وَأما شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَالْمَذْهَب الصَّحِيح الْقطع بِطَهَارَتِهِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: فِي الشّعْر خلاف، فَإِن عَطاء يرْوى عَنهُ أَنه نجسه. قلت: يُشِير بذلك إِلَى أَن اسْتِدْلَال البُخَارِيّ بِمَا روى عَن عَطاء فِي طَهَارَة المَاء الَّذِي يغسل بِهِ الشّعْر نظر، ثمَّ قَالَ: وَرَأى ابْن الْمُبَارك رجلا أَخذ شَعْرَة من لحيته ثمَّ جعلهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ لَهُ: مَه، أترد الْميتَة إِلَى فِيك؟ فاما شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ مكرم مُعظم خَارج عَن هَذَا. قلت: قَول الْمَاوَرْدِيّ: واما شعر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَالْمَذْهَب الصَّحِيح الْقطع بِطَهَارَتِهِ، يدل على أَن لَهُم قولا بِغَيْر ذَلِك، فنعوذ بِاللَّه من ذَلِك القَوْل. وَقد اخترق بعض الشَّافِعِيَّة، وَكَاد أَن يخرج عَن دَائِرَة الْإِسْلَام، حَيْثُ قَالَ: وَفِي شعر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجْهَان، وحاشا شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من ذَلِك، وَكَيف قَالَ هَذَا وَقد قيل بِطَهَارَة فضلاته فضلا عَن شعره الْكَرِيم؟ وَقد قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: إِنَّمَا قسم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، شَرعه للتبرك، وَلَا يتَوَقَّف التَّبَرُّك على كَونه طَاهِرا. قلت: هَذَا أشنع من ذَلِك، وَقَالَ كثير من الشَّافِعِيَّة نَحْو ذَلِك، ثمَّ قَالُوا: الَّذِي أَخذ كَانَ يَسِيرا معفواً عَنهُ. قلت: هَذَا أقبح من الْكل، وغرضهم من ذَلِك تمشية مَذْهَبهم فِي تنجيس شعر بني آدم، فَلَمَّا أورد عَلَيْهِم شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. أولُوا هَذِه التأويلات الْفَاسِدَة، وَقَالَ بعض شرَّاح البُخَارِيّ فِي بَوْله وذنه وَجْهَان والأليق الطَّهَارَة وَذكر القَاضِي حُسَيْن فِي الْعذرَة وَجْهَيْن، وَأنكر بَعضهم على الْغَزالِيّ حكايتهما فِيهَا، وَزعم نجاستها بالِاتِّفَاقِ. قلت: يَا للغزالي من هفوات حَتَّى فِي تعلقات النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة أَن جمَاعَة شربوا دم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِنْهُم أَبُو طيبَة الْحجام، وَغُلَام من قُرَيْش حجم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعبد الله بن الزبير شرب دم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ وَأَبُو نعيم فِي (الْحِلْية) . ويروى عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه شرب دم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَرُوِيَ أَيْضا أَن أم أَيمن شربت بَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ الْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو نعيم، وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) فِي رِوَايَة سلمى امْرَأَة ابي رَافع أَنَّهَا شربت بعض مَاء غسل بِهِ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ لَهَا حرم الله بدنك على النَّار. وَقَالَ بَعضهم: الْحق أَن حكم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَحكم جَمِيع الْمُكَلّفين فِي الْأَحْكَام التكليفية: إلَاّ فِيمَا يخص بِدَلِيل. قلت: يلْزم من هَذَا أَن يكون النَّاس مساويين للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا يَقُول بذلك إلَاّ جَاهِل غبي، وَأَيْنَ مرتبته من مَرَاتِب النَّاس؟ وَلَا يلْزم أَن يكون دَلِيل الْخُصُوص بِالنَّقْلِ دَائِما، وَالْعقل لَهُ مدْخل فِي تميز النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من غَيره فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء، وَأَنا اعْتقد أَنه لَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره، وَإِن قَالُوا غير ذَلِك فاذني عَنهُ صماء.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute