النّوم وَنَحْوه سَبَب لانتقاض الْوضُوء لَا للْوُضُوء، وَالَّذِي يكون سَببا لنفي شَيْء كَيفَ يكون سَببا لإثباته؟ الثَّانِي: قَوْله: بِالنّظرِ إِلَى اعْتِقَاد الْخصم لَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ حصر بِالنّظرِ إِلَى اعْتِقَاد خصم الْخصم، والخصم لَا يَدعِي الْحصْر على المخرجين. الثَّالِث: إِن قَوْله: فَمَعْنَاه من لم ير الْوضُوء من مخرج ... إِلَى آخِره، يردهُ حكم من طعن فِي سرته وَخرج الْبَوْل والعذرة، تنْتَقض الطَّهَارَة عِنْد الْخصم أَيْضا، فَعلمنَا من هَذَا أَن احكم الْخَارِج من الْقبل والدبر وَغَيرهمَا سَوَاء فِي الحكم فَلَا يتَفَاوَت.
ثمَّ الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْبَاب السَّابِق فِي نفي النَّجَاسَة عَن شعر الْإِنْسَان وَعَن سُؤْر الْكَلْب، وَفِي هَذَا الْبَاب نفي انْتِقَاض الْوضُوء من الْخَارِج من غير المخرجين، وَأدنى الْمُنَاسبَة كَافِيَة.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ
هَذَا لَا يصلح أَن يكون دَلِيلا لما ادَّعَاهُ من الْحصْر على الْخَارِج من المخرجين، لِأَن عِنْدهم ينْتَقض الْوضُوء من لمس النِّسَاء وَمَسّ الْفرج، فَإِذا الْحصْر بَاطِل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْغَائِط المطمئن من الأَرْض، فَيتَنَاوَل الْقبل والدبر، إِذْ هُوَ كِنَايَة عَن الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ مُطلقًا. قلت: تنَاوله الْقبل والدبر لَا يسْتَلْزم حصر الحكم على الْخَارِج مِنْهُمَا، فالآية لَا تدل على ذَلِك، لَان الله تَعَالَى أخبر أَن الْوضُوء، أَو التَّيَمُّم عِنْد فقد المَاء، يجب بالخارج من السَّبِيلَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على الْحصْر. فَقَالَ بَعضهم: هَذَا دَلِيل الْوضُوء مِمَّا يخرج من المخرجين. قلت: نَحن نسلم ذَلِك، وَلَكِن لَا نسلم دعواك أَيهَا الْقَائِل: إِن هَذَا حصر على الْخَارِج مِنْهُمَا. وَقَالَ أَيْضا: {أَو لامستم النِّسَاء} (النِّسَاء: ٤٣، الْمَائِدَة: ٦) دَلِيل الْوضُوء من ملامسة النِّسَاء: قلت: الْمُلَامسَة كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْمس واللمس والغشيان والإتيان والقربان والمباشرة: الْجِمَاع، لكنه عز وَجل حَيّ كريم يعْفُو ويكني، فكنى باللمس عَن الْجِمَاع كَمَا كنى بالغائط عَن قَضَاء الْحَاجة، وَمذهب عَليّ بن أبي طَالب، وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعبيدَة السَّلمَانِي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، وَعبيدَة الضَّبِّيّ، بِضَم الْعين، وَعَطَاء وَطَاوُس وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ: أَن اللَّمْس وَالْمُلَامَسَة كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَهُوَ الَّذِي صَحَّ عَن عمر بن الْخطاب أَيْضا على مَا نَقله أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ وَابْن الْجَزرِي، فَحِينَئِذٍ بَطل قَول هَذَا الْقَائِل: وَقَوله: {اَوْ لامستم النِّسَاء} (النِّسَاء: ٤٣، الْمَائِدَة: ٦) دَلِيل الْوضُوء، بل هُوَ دَلِيل الْغسْل وَقَالَ أَيْضا: وَفِي مَعْنَاهُ مس الذّكر. قلت: هَذَا أبعد من الأول، فَإِن كَانَت الْمُلَامسَة بِمَعْنى الْجِمَاع، كَيفَ يكون مس الذّكر مثله؟ فَيلْزم من ذَلِك أَن يجب الْغسْل على من مس ذكره. وَقَوله: مَعَ صِحَة الحَدِيث، اي: فِي مس الذّكر. قلت: وَإِن كَانَ الحَدِيث فِيهِ صَحِيحا، قُلْنَا: أَحَادِيث وأخبار ترفع حكم هَذَا، كَمَا قَررنَا فِي مَوْضِعه فِي غير هَذَا الْكتاب.
وقالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ أوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ القَمْلَةِ يُعِيدُ الوُضُوءَ
عَطاء هُوَ ابْن ابي رَبَاح، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله ابْن ابي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِإِسْنَاد صَحِيح، وَقَالَ: حَدثنَا حَفْص بن غياث عَن ابْن جريج عَن عَطاء، فَذكره. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَنه ينْقض خُرُوج الْغَائِط من الدبر وَالْبَوْل من الْقبل وَالرِّيح من الدبر والمذي، قَالَ: وَدم الِاسْتِحَاضَة ينْقض فِي قَول عَامَّة الْعلمَاء الْأَرْبَعَة. قَالَ: وَاخْتلفُوا فِي الدُّود يخرج من الدبر فَكَانَ عَطاء ابْن ابي رَبَاح وَالْحسن وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأَبُو مجلز وَالْحكم وسُفْيَان وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر يرَوْنَ مِنْهُ الْوضُوء. وَقَالَ قَتَادَة وَمَالك: لَا وضوء فِيهِ، روروي ذَلِك عَن النَّخعِيّ. وَقَالَ مَالك: لَا وضوء فِي الدَّم يخرج من الدبر. انْتهى. ونقلت الشَّافِعِيَّة عَن مَالك أَن النَّادِر لَا ينْقض، والنادر كالمذي يَدُوم لَا بِشَهْوَة فَإِن كَانَ بهَا فَلَيْسَ بنادر، وَكَذَا نقل ابْن بطال عَنهُ، فَقَالَ: وَعند مَالك أَن مَا خرج من المخرجين مُعْتَادا نَاقض، وَمَا خرج نَادرا على وَجه الْمَرَض لَا يقْض الْوضُوء: كالاستحاضة وسلس الْبَوْل ابو والمذي وَالْحجر والدود وَالدَّم. وَقَالَ ابْن حزم: الْمَذْي وَالْبَوْل وَالْغَائِط، من أَي مَوضِع خرجن من الدبر أَو الإحليل أَو المثانة أَو الْبَطن أَو غير ذَلِك من الْجَسَد أَو الْفَم، نَاقض للْوُضُوء لعُمُوم أمره، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْوضُوءِ مِنْهَا، وَلم يخص موضعا دون مَوضِع، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه. وَالرِّيح الْخَارِجَة من ذكر الرجل وَقبل الْمَرْأَة لَا ينْقض الْوضُوء عندنَا، هَكَذَا ذكره الْكَرْخِي عَن أَصْحَابنَا إِلَّا أَن تكون الْمَرْأَة مفضاة، وَهِي الَّتِي صَار مَسْلَك بولها وَوَطئهَا وَاحِدًا، أَو الَّتِي صَار مَسْلَك الْغَائِط وَالْوَطْء مِنْهَا وَاحِدًا. وَعَن الْكَرْخِي: إِن الرّيح
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute