فِيهِ جُزْءا مِمَّا تشْتَمل عَلَيْهِ تِلْكَ التَّرْجَمَة، وَهَهُنَا كَذَلِك. قَوْله: (وَغَيره) قَالَ بَعضهم: أَي من مظان الْحَدث. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي غير الْقُرْآن من السَّلَام وَسَائِر الْأَذْكَار. قلت: أما قَول هَذَا الْقَائِل: من مظان الْحَدث، فَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن عود الضَّمِير لَا يَصح إلَاّ إِلَى شَيْء مَذْكُور لفظا وتقديراً بِدلَالَة الْقَرِينَة اللفظية، أَو الحالية، وَلم يبين أَيْضا مظان الْحَدث، ومظنة الْحَدث أَيْضا على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا: مثل الْحَدث، وَالْآخر: لَيْسَ مثله، فَإِن كَانَ مُرَاده النَّوْع الأول فَهُوَ دَاخل فِي قَوْله: بعد الْحَدث، وَإِن كَانَ الثَّانِي. فَهُوَ خَارج عَن الْبَاب، فَإِذا لَا وَجه لما قَالَه على مَا لَا يخفى. وَأما قَول الْكرْمَانِي: أَي غير الْقُرْآن، فَهُوَ الْوَجْه، وَلَكِن قَوْله: من السَّلَام وَسَائِر الْأَذْكَار، لَا وَجه لَهُ فِي التَّمْثِيل، لِأَن الْمُحدث إِذا جَازَ لَهُ قِرَاءَة الْقُرْآن، فالسلام وَسَائِر الْأَذْكَار بِالطَّرِيقِ الأولى أَن يجوز، وَلَو قَالَ غير الْقُرْآن مثل: كِتَابَة الْقُرْآن، لَكَانَ أوجه وأشمل للقولي والفعلي، على أَن تَعْلِيق البُخَارِيّ قَول مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ مُشْتَمل على الْقسمَيْنِ: أَحدهمَا: قِرَاءَة الْقُرْآن بعد الْحَدث، وَالثَّانِي: كِتَابَة الرسائل فِي حَالَة الْحَدث.
ثمَّ المناسة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة من وَجه أَن فِي الْبَاب الأول حكم التوضئة، وَفِي هَذَا الْوضُوء، وَهَذَا الْقدر كافٍ. فَافْهَم.
وقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ إبْراهِيمَ لَا بَأْسَ بِالقِرَاءَةِ فِي الحَمَّامِ وَبِكَتْبِ الرِّسالَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءِ.
مَنْصُور هُوَ: ابْن الْمُعْتَمِر السّلمِيّ الْكُوفِي، تقدم فِي بَاب من جعل لأهل الْعلم أَيَّامًا. وَإِبْرَاهِيم هُوَ ابْن يزِيد النَّخعِيّ الْكُوفِي القعْنبِي، مر فِي بَاب ظلم دون ظلم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن أبي عوَانَة عَن مَنْصُور مثله، وروى عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن مَنْصُور، قَالَ: سَأَلت إِبْرَاهِيم عَن الْقِرَاءَة فِي الْحمام؟ فَقَالَ: لم يُبْنَ للْقِرَاءَة، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا يُخَالف رِوَايَة أبي عوَانَة. قلت: لَا مُخَالفَة بَينهمَا، لِأَن قَوْلهم: لم يبن للْقِرَاءَة، إِخْبَار بِمَا هُوَ الْوَاقِع فِي نَفسه، فَلَا يدل على الْكَرَاهَة وَلَا على عدمهَا. أَو نقُول: عَن إِبْرَاهِيم رِوَايَتَانِ، وَفِي رِوَايَة يكره، وَفِي رِوَايَة لَا يكره. وَقد روى سعيد بن مَنْصُور أَيْضا عَن مُحَمَّد بن أبان عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، قَالَ: سَأَلت إِبْرَاهِيم عَن الْقِرَاءَة فِي الْحمام؟ فَقَالَ: يكره ذَلِك. فان قلت: لِمَ ذكر البُخَارِيّ الْأَثر الَّذِي فِيهِ ذكر الْحمام، والتبويب أَعم من هَذَا؟ قلت: لِأَن الْغَالِب أَن أهل الْحمام أَصْحَاب الْأَحْدَاث.
وَاخْتلفُوا فِي قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْحمام. فَعَن ابي حنيفَة أَنه يكره، وَعَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه لَا يكره، وَبِه قَالَ مَالك. وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلِيل خَاص، قلت: إِنَّمَا كره أَبُو حنيفَة قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْحمام لِأَن حكمه حكم بَيت الْخَلَاء، لِأَنَّهُ مَوضِع النَّجَاسَة، وَالْمَاء الْمُسْتَعْمل فِي الْحمام نجس عِنْده، وَعند مُحَمَّد طَاهِر، فَلذَلِك لم يكرهها. قَوْله: (وبكتب الرسَالَة) أَي: وبكتابة الرسَالَة، لِأَن الْكتب مصدر دخلت عَلَيْهِ الْبَاء حرف الْجَرّ، وَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله: (لَا بَأْس بِالْقِرَاءَةِ) ، وَالتَّقْدِير: وَلَا بَأْس بكتب الرسَالَة على غير وضوء، وَهَذِه فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة غَيرهَا: وَيكْتب الرسَالَة، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع، وَالْوَجْه الأول أوجه، وَهَذَا الْأَثر وَصله عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ أَيْضا عَن مَنْصُور، قَالَ: سَأَلت إِبْرَاهِيم: أأكتب الرسَالَة على غير وضوء؟ قَالَ: نعم، وَقَالَ بَعضهم: وَتبين بِهَذَا أَن قَوْله: (على غير وضوء) يتَعَلَّق بِالْكِتَابَةِ لَا بالقراء فِي الْحمام. قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَإِن قَوْله: (وبكتب الرسَالَة) على الْوَجْهَيْنِ يتَعَلَّق على قَوْله: (بِالْقِرَاءَةِ) . وَقَوله: (وعَلى غير وضوء) يتَعَلَّق بالمعطوف عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا كشيء وَاحِد. وَقَالَ أَصْحَابنَا: يكره للْجنب أَو الْحَائِض أَن يكْتب الْكتاب الَّذِي فِي بعض سطوره آيَة من الْقُرْآن وَإِن كَانَا لَا يقرآن شَيْئا، لِأَنَّهُمَا منهيان عَن مس الْقُرْآن، وَفِي الْكِتَابَة مس، لِأَنَّهُ يكْتب بالقلم وَهُوَ فِي يَده، وَهُوَ صُورَة الْمس: وَفِي (الْمُحِيط) : لَا بَأْس لَهما بِكِتَابَة الْمُصحف إِذا كَانَت الصَّحِيفَة على الأَرْض عِنْد أبي يُوسُف لِأَنَّهُ لَا يمس الْقُرْآن بِيَدِهِ وَإِنَّمَا يكْتب حرفا فحرفاً، وَلَيْسَ الْحَرْف الْوَاحِد بقرآن. وَقَالَ مُحَمَّد: أجب إِلَى أَن لَا يكْتب لِأَنَّهُ فِي الحكم مَاس للحروف، وَهِي بكليتها قُرْآن ومشايخ بخاري أخذُوا بقول مُحَمَّد، كَذَا فِي (الذَّخِيرَة) .
وَقَالَ حمَّادٌ عَنْ إبْراهِيمَ إنْ كانَ عَلَيْهِمْ إزَارٌ فَسَلِّمْ وإلَاّ فَلَا تُسَلِّمْ.
حَمَّاد هُوَ ابْن أبي سُلَيْمَان، فَقِيه الْكُوفَة وَشَيخ أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ. وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الثَّوْريّ فِي (جَامعه) عَنهُ. قَوْله: (عَلَيْهِم) أَي على: أهل الْحمام العراة المتطهرين، وَقَالَ بَعضهم: اي على من فِي الْحمام، وَالْمرَاد الْجِنْس. قلت:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute