النَّبِي وَهُوَ فِي الْمَسْجِد، قَالَ: أنْشدك يَا رَسُول ا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: بلَى، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: فَاخْرُج من الْمَسْجِد، فَخرج فأنشده فَأعْطَاهُ رَسُول الله ثوبا) . وَقَالَ: هَذَا بدل مَا مدحت بِهِ رَبك. قلت: أما حَدِيث عَمْرو: فَمنهمْ من يَقُول: إِنَّه صحيفَة، حَتَّى قَالَ ابْن حزم: لَا يَصح هَذَا، لَكِن يَقُول: من يصحح نسخته يصحح حَدِيثه. وَأما حَدِيث حَكِيم بن حزَام فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الأشبيلي: إِنَّه حَدِيث ضَعِيف. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: لم يبين أَبُو مُحَمَّد من أمره شَيْئا، وعلته الْجَهْل بِحَال زفر، فَلَا يعرف. قلت: أما زفر فَإِنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ، بل حَاله مَعْرُوفَة. قَالَ عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ: سَأَلت يحيى عَنهُ، فَقَالَ: ثِقَة، وَذكره ابْن حبَان فِي (كتاب الثِّقَات) ، وَصحح لَهُ الْحَاكِم حَدِيثا عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة. وَأما حَدِيث أسيد فَفِي سَنَده ابْن أبي يحيى شيخ الشَّافِعِي. وَفِيه كَلَام شَدِيد، وَقد جمع ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) بَين الشّعْر الْجَائِز إنشاده فِي الْمَسْجِد وَبَين الْمَمْنُوع من إنشاده فِيهِ. وَقَالَ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي (كتاب الْمَسَاجِد) : نهى عَن تناشد أشعار الْجَاهِلِيَّة والمبطلين فِيهِ، فَأَما أشعار الْإِسْلَام والمحقين فواسع غير مَحْظُور.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء أَيْضا فِي جَوَاز إنشاد الشّعْر مُطلقًا، فَقَالَ الشّعبِيّ وعامر بن سعد البَجلِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد: لَا بَأْس بإنشاد الشّعْر الَّذِي لَيْسَ فِيهِ هجاء، وَلَا نكب عرض أحد من الْمُسلمين، وَلَا فحش. وَقَالَ مَسْرُوق بن الأجدع وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَالم بن عبد اولحسن الْبَصْرِيّ وَعَمْرو بن شُعَيْب: تكره رِوَايَة الشّعْر وإنشاده، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عمر بن الْخطاب عَن رَسُول الله قَالَ: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا) . وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَالْبَزَّار والطَّحَاوِي، وروى مُسلم عَن سعد بن أبي وَقاص عَن النَّبِي قَالَ: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا يرِيه خير من أَن يمتلىء شعرًا) . وَأخرجه ابْن ماجة أَيْضا، وَأخرجه البُخَارِيّ عَن ابْن عمر عَن النَّبِي نَحْو رِوَايَة ابْن أبي شيبَة، وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة نَحْو رِوَايَته عَن سعد، وَأخرجه أَيْضا عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن عَوْف بن مَالك عَن النَّبِي، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا عَن أبي الدَّرْدَاء عَن النَّبِي، وَأجَاب الْأَولونَ عَن هَذَا وَقَالُوا: إِنَّمَا هَذِه الْأَحَادِيث وَردت على خَاص من الشّعْر، وَهُوَ أَن يكون فِيهِ فحش وخناء، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ عَن الشّعبِيّ: المُرَاد بِهِ الشّعْر الَّذِي هجي بِهِ النَّبِي، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الَّذِي فِيهِ عِنْدِي غير ذَلِك، لِأَن مَا هجي بِهِ رَسُول الله لَو كَانَ شطر بَيت لَكَانَ كفرا، وَلَكِن وَجهه عِنْدِي أَن يمتلىء قلبه حَتَّى يغلب عَلَيْهِ فيشغله عَن الْقُرْآن وَالذكر. قيل: فِيمَا قَالَه أَبُو عُبَيْدَة نظر، لِأَن الَّذين هجوا النَّبِي كَانُوا كفَّارًا، وهم فِي حَال هجوهم موصوفون بالْكفْر من غير هجو، غَايَة مَا فِي الْبَاب: قدلازاد كفرهم وطغيانهم بهجوهم، وَالَّذِي قَالَه الشّعبِيّ أوجه. قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ قوم: لَو كَانَ إريد بذلك مَا هجي بِهِ رَسُول الله من الشّعْر لم يكن لذكر الامتلاء معنى، لِأَن قَلِيل ذَلِك وَكَثِيره كفر، وَلَكِن ذكر الامتلاء لَيْسَ فِيمَا دونه. قَالُوا: فَهُوَ عندنَا على الشّعْر الَّذِي يمْلَأ الْجوف فَلَا يكون فِيهِ قُرْآن وَلَا تَسْبِيح وَلَا غَيره، فأ مَا من كَانَ فِي جَوْفه الْقُرْآن وَالشعر مَعَ ذَلِك، فَلَيْسَ مِمَّن امْتَلَأَ جَوْفه شعرًا، فو خَارج من قَول رَسُول ا: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا يرِيه خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا) . وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: كَانَ حسان ينشد الشّعْر فِي الْمَسْجِد فِي أول الْإِسْلَام، وَكَذَا لعب الْحَبَش فِيهِ، وَكَانَ الْمُشْركُونَ إِذْ ذَاك يدخلونه، فَلَمَّا كمل الْإِسْلَام زَالَ ذَلِك كُله. قلت: أَشَارَ بذلك إِلَى النّسخ، وَلم يُوَافقهُ أحد على ذَلِك. قَوْله: (قَيْحا) نصب على التَّمْيِيز، وَهُوَ: الصّديق الَّذِي يسيل من الدمل وَالْجرْح، قَوْله: (يرِيه) من الوري، وَهُوَ الدَّاء يُقَال: ورى يوري فَهُوَ موري إِذا أصَاب جَوْفه الدَّاء وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وروى الْقَيْح جَوْفه يرِيه ورياً: أكله، وَقَالَ قوم: مَعْنَاهُ حَتَّى يُصِيب ريته. قلت: فِيهِ نظر.
الثَّانِي من الْأَحْكَام: جَوَاز الاستنصار من الْكفَّار. قَالَ الْعلمَاء: يَنْبَغِي أَن لَا يبْدَأ الْمُشْركُونَ بالسب والهجاء مَخَافَة من سبهم الْإِسْلَام وَأَهله، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون افيسبوا اعدواً} (الْأَنْعَام: ٨٠١) ولتنزيه أَلْسِنَة الْمُسلمين عَن الْفُحْش، إلَاّ أَن تَدْعُو إِلَى ذَلِك ضَرُورَة كابتدائهم بِهِ، فَكيف إِذا هم أَو نَحوه كَمَا فعله.
الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الدُّعَاء لمن قَالَ شعرًا، مثل قصَّة حسان.
الرَّابِع: فِيهِ الدّلَالَة على فَضِيلَة حسان رَضِي اتعالى عَنهُ.
٩٦ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute