للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وَمِمَّا يدل على مَا قُلْنَا قَوْلهَا: وَكَانَ عِنْدِي حلي فَأَرَدْت أَن أَتصدق، وَلَا تجب الصَّدَقَة فِي الْحلِيّ عِنْد بعض الْعلمَاء، وَمن يُجِيزهُ لَا يكون الْحلِيّ كُله زَكَاة، إِنَّمَا يجب جُزْء مِنْهُ. وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (زَوجك وولدك أَحَق من تَصَدَّقت عَلَيْهِم) ، وَالْولد لَا تدفع إِلَيْهِ الزَّكَاة إِجْمَاعًا، وَقَالَ بَعضهم: احْتج الطَّحَاوِيّ لقَوْل أبي حنيفَة. فَأخْرج من طَرِيق رائطة امْرَأَة ابْن مَسْعُود أَنَّهَا كَانَت امْرَأَة صنعاء الْيَدَيْنِ، فَكَانَت تنْفق عَلَيْهِ وعَلى وَلَده، قَالَ: فَهَذَا يدل على أَنَّهَا صَدَقَة تطوع، وَأما الْحلِيّ فَإِنَّمَا يحْتَج بِهِ على من لَا يُوجب فِيهِ الزَّكَاة، وَأما من يُوجِبهُ فَلَا. وَقد روى الثَّوْريّ عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة، قَالَ: قَالَ ابْن مَسْعُود لامْرَأَته فِي حليها إِذا بلغ مِائَتي دِرْهَم فَفِيهِ الزَّكَاة، فَكيف يحْتَج الطَّحَاوِيّ بِمَا لَا يَقُول بِهِ؟ قلت: لَو فهم هَذَا الْقَائِل مَوضِع احتجاج الطَّحَاوِيّ من هَذَا الحَدِيث لَكَانَ سكت عَمَّا قَالَه، وَمَوْضِع احتجاجه هُوَ قَوْلهَا: إِنِّي امْرَأَة ذَات صَنْعَة أبيع مِنْهَا ... إِلَى آخِره، مَا ذَكرْنَاهُ عَنهُ آنِفا، فَكَانَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَوَابا لَهَا فِي سؤالها. وَلَيْسَ فِي احتجاجه بِهَذَا مفتقرا إِلَى الِاحْتِجَاج بِأَمْر الْحلِيّ سَوَاء كَانَ فِيهِ الزَّكَاة أَو لم يكن. قَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا. وَالَّذِي يظْهر لي أَنَّهُمَا قضيتان: إِحْدَاهمَا فِي سؤالها عَن تصدقها بحليها على زَوجهَا وَولده، وَالْأُخْرَى: فِي سؤالها عَن النَّفَقَة.

قلت: الَّذِي يظْهر من هَذَا الحَدِيث خلاف مَا ظهر لَهُ لِأَن فِي الحَدِيث سؤالها عَن الصَّدَقَة الَّتِي أَمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهُنَّ بهَا، وأجابها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن زَوجك وولدك أَحَق من تَصَدَّقت بِهِ عَلَيْهِم، فَمن أَيْن السؤالان فِيهِ؟ وَمن أَيْن الجوابان عَنْهُمَا؟ وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن ظَاهر قَوْله فِي حَدِيث ابْن سعيد الْمَذْكُور: (زَوجك وولدك أَحَق من تَصَدَّقت بِهِ عَلَيْهِم) دَال على أَنَّهَا صَدَقَة تطوع لِأَن الْوَلَد لَا يعْطى من الزَّكَاة الْوَاجِبَة بِالْإِجْمَاع، كَمَا نَقله ابْن الْمُنْذر وَغَيره، وَفِي هَذَا الِاحْتِجَاج نظر، لِأَن الَّذِي يمْتَنع إِعْطَاؤُهُ من الصَّدَقَة الْوَاجِبَة من يلْزم الْمُعْطِي نَفَقَته، وَالأُم لَا يلْزمهَا نَفَقَة وَلَدهَا مَعَ وجود أَبِيه. قلت: يلْزم الْأُم نَفَقَة وَلَدهَا إِذا كَانَ أَبوهُ فَقِيرا عَاجِزا عَن التكسب جدا، وَذكر أَصْحَابنَا أَن الْأَب إِذا كَانَ مُعسرا كسوبا وَله ابْن زَمِنٌ وَله أم موسرة هَل تُؤمر بِالْإِنْفَاقِ على الابْن؟ اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ، قيل: تُؤمر، وَقيل: لَا ترجع الْأُم على الْأَب، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن أبي حنيفَة نصا. انْتهى. وَقيل: قَوْله: ولدك، مَحْمُول على أَن الْإِضَافَة للتربية لَا للولادة، فَكَأَنَّهُ وَلَده من غَيرهَا. قلت: هَذَا ارْتِكَاب الْمجَاز بِغَيْر قرينَة وَهُوَ غير صَحِيح وَقد خاطبها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (وولدك) ، فَدلَّ على أَنه وَلَدهَا حَقِيقَة، وَيدل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي حَدِيث آخر: (أيجزىء عني أَن أنْفق على زَوجي وأيتام لي فِي حجري؟) وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) : (أيجزىء أَن أجعَل صدقتي فِيك وَفِي بني أخي أَيْتَام؟) الحَدِيث، وَفِي رِوَايَة: (يَا رَسُول الله! هَل لي من أجر أَن أَتصدق على ولد عبد الله من غَيْرِي؟) وإسنادهما جيد، وللبيهقي: (كنت أعول عبد الله ويتامى) ، وَقيل: اعتل من منعهَا من إعطائها زَكَاتهَا لزَوجهَا بِأَنَّهَا تعود إِلَيْهَا فِي النَّفَقَة فَكَأَنَّهَا مَا خرجت عَنْهَا، وَجَوَابه: إِن احْتِمَال رُجُوع الصَّدَقَة إِلَيْهَا وَاقع فِي التَّطَوُّع أَيْضا قلت: لَيست الصَّدَقَة كَالزَّكَاةِ، لِأَن عود الزَّكَاة إِلَيْهَا فِي النَّفَقَة يضر فَتَصِير كَأَنَّهَا مَا خرجت بِخِلَاف الصَّدَقَة، فَإِن احْتِمَال عودهَا إِلَيْهَا لَا يضر، فخروجها وَعَدَمه سَوَاء.

وَأما مَسْأَلَة الْحلِيّ فَفِيهَا خلاف بَين الْعلمَاء، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري: تجب فِيهَا الزَّكَاة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر ابْن الْخطاب وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبِه قَالَ سعيد بن الْمسيب وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وَمُحَمّد بن سِيرِين وَجَابِر بن زيد وَمُجاهد وَالزهْرِيّ وطاووس وَمَيْمُون بن مهْرَان وَالضَّحَّاك وعلقمة وَالْأسود وَعمر بن عبد الْعَزِيز وذر الْهَمدَانِي وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن شبْرمَة وَالْحسن بن حَيّ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَابْن حزم: الزَّكَاة وَاجِبَة بِظَاهِر الْكتاب وَالسّنة، وَقَالَ مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِي أظهر قوليه: لَا تجب الزَّكَاة فِيهَا، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر وَجَابِر بن عبد الله وَعَائِشَة وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَالشعْبِيّ، وَكَانَ الشَّافِعِي يُفْتِي بِهَذَا فِي الْعرَاق وَتوقف بِمصْر، وَقَالَ: هَذَا مِمَّا استخير الله فِيهِ. وَقَالَ اللَّيْث: مَا كَانَ من حلي يلبس ويعار فَلَا زَكَاة فِيهِ، وَإِن اتخذ للتحرز عَن الزَّكَاة فَفِيهِ الزَّكَاة، وَقَالَ أنس: يزكّى عَاما وَاحِدًا لَا غير.

وَاسْتدلَّ من أسقط الزَّكَاة بِحَدِيث جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: لَيْسَ فِي الْحلِيّ زَكَاة، ذكره فِي (الإِمَام) وَعَن جَابر أَنه كَانَ يرى الزَّكَاة فِي كثير الْحلِيّ دون قليلها، وروى عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: لَا زَكَاة فِي الْحلِيّ، وروى مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن عبد الرَّحْمَن

<<  <  ج: ص:  >  >>