قَالَ مَالك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجب شَرط الْقطع. انْتهى. قلت: مَذْهَب الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأحمد وَإِسْحَاق: عدم جَوَاز بيع الثِّمَار فِي رُؤُوس النّخل حَتَّى تحمر أَو تصفر.
وَمذهب الْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، جَوَاز بيع الثِّمَار على الْأَشْجَار بعد ظُهُورهَا، وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة، وَأحمد فِي قَول، وحجتهم فِي هَذَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، عَن عبد الله بن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من بَاعَ نخلا قد أبرت فثمرتها للْبَائِع إلَاّ أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع) . وَزَاد التِّرْمِذِيّ: وَمن بَاعَ عبدا وَله مَال فَمَاله للَّذي بَاعه إلَاّ أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع وَقَالَ هَذَا الحَدِيث حسن صَحِيح وَجه التَّمَسُّك بِهِ انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل فِيهِ تمر النّخل لبائعها إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع فَيكون لَهُ باشتراطه إِيَّاهَا، وَيكون ذَلِك مبتاعا لَهَا، وَفِي هَذَا إِبَاحَة بيع الثِّمَار قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا، لِأَن كل مَا لَا يدْخل فِي بيع غَيره إلَاّ بالاشتراط هُوَ الَّذِي يكون مَبِيعًا وَحده، وَمَا لَا يدْخل فِي بيع غَيره من غير اشْتِرَاط هُوَ الَّذِي لَا يجوز أَن يكون مَبِيعًا وَحده.
قَوْله: قد أبرت، من قَوْلهم: فلَان أبر نخله، إِذا لقحه، وَالِاسْم مِنْهُ: الإبار، كالإزار، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث الْمَذْكُور: أَن المُرَاد مِنْهُ البيع قبل أَن يتكون، فَيكون بَائِعهَا بَائِعا بِمَا لَيْسَ عِنْده، وَقد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله، مَا ملخصه: أَن قوما قَالُوا: إِن النَّهْي الْمَذْكُور لَيْسَ للتَّحْرِيم، وَلكنه على المشورة مِنْهُ عَلَيْهِم لِكَثْرَة مَا كَانُوا يختصمون إِلَيْهِ فِيهِ، وَرووا فِي ذَلِك عَن زيد بن ثَابت، قَالَ: كَانَ النَّاس فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتبايعون الثِّمَار، فَإِذا جد النَّاس وَحضر تقاضيهم قَالَ الْمُبْتَاع إِنَّه أصَاب الثَّمر العفن والدمان، وأصابه قشام، عاهات، يحتجون بهَا. فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما كثرت عِنْده الْخُصُومَة فِي ذَلِك:(لَا تتبايعوا حَتَّى يَبْدُو صَلَاح الثَّمر) ، كالمشورة يُشِير بهَا لِكَثْرَة خصومتهم، فَكَانَ نَهْيه عَن ذَلِك على هَذَا الْمَعْنى، وَأخرج الطَّحَاوِيّ حَدِيث زيد هَذَا بِإِسْنَاد صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا وَالْبَيْهَقِيّ. قَوْله: العفن، بِفتْحَتَيْنِ: الْفساد، وَأما بِكَسْر الْفَاء فَهُوَ من الصِّفَات المشبهة، والدمان، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم وَفِي آخِره نون: هُوَ فَسَاد التَّمْر قبل إِدْرَاكه حَتَّى يسود، ويروى بِاللَّامِ وبالراء فِي مَوضِع النُّون. والقشام، بِضَم الْقَاف: دَاء يَقع فِي الثَّمَرَة فتهلك.
قَالَ سالِمٌ وأخبَرَنِي عَبْدُ الله عَنْ زَيْدِ بنِ ثابِتٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بالرُّطَبِ أوْ بالتَّمْرِ ولَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِهِ.
هَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَسَيَأْتِي فِي آخر الْبَاب أَنه أفرد حَدِيث زيد بن ثَابت من طَرِيق نَافِع عَن ابْن عمر، وَقد ذكر فِي: بَاب بيع الزَّبِيب بالزبيب من وَجه آخر عَن نَافِع مضموما فِي سِيَاق وَاحِد.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَلم يفصل حَدِيث ابْن عمر من حَدِيث زيد بن ثَابت. وَأَشَارَ إِلَى أَنه وهم فِيهِ، وَالصَّوَاب التَّفْصِيل.
قَوْله:(رخص بعد ذَلِك) ، أَي: بعد النَّهْي عَن بيع التَّمْر بالثمر فِي بيع الْعَرَايَا، وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا من أصرح مَا ورد فِي الرَّد على من حمل من الْحَنَفِيَّة النَّهْي عَن بيع التَّمْر بالثمر على عُمُومه، وَمنع أَن يكون بيع الْعَرَايَا مُسْتَثْنى مِنْهُ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمَا حكمان وردا فِي سِيَاق وَاحِد، وَكَذَلِكَ من زعم مِنْهُم، كَمَا حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنْهُم، أَن بيع الْعَرَايَا مَنْسُوخ بِالنَّهْي عَن بيع التَّمْر بالثمر، لِأَن الْمَنْسُوخ لَا يكون إلَاّ بعد النَّاسِخ. انْتهى. قلت: إبْقَاء النَّهْي على الْعُمُوم أولى من إبِْطَال شَيْء مِنْهُ وَلَا منع من أَن يكون النَّهْي عَن بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ، وَبيع الْعَرَايَا حكمين واردين فِي سِيَاق وَاحِد، وَعُمُوم النَّهْي ثَابت بِيَقِين. وَقَول زيد بن ثَابت: إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رخص بعد ذَلِك، لَا يُخرجهُ عَن عُمُومه الْمُتَيَقن، لِأَن معنى كَلَامه أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أظهر بعد نَهْيه عَن بيع التَّمْر بالثمر أَن بيع الْعرية رخصَة، لَا أَنه مُسْتَثْنى مِنْهُ، على أَن الْعرية فِي الأَصْل عَطِيَّة وَهبة.
فَإِن قلت: الرُّخْصَة لَا دخل لَهَا فِي العطايا والهبات، وَلَا تكون الرُّخْصَة إلَاّ فِي شَيْء محرم، وَلَو كَانَت الْعرية رخصَة لم يكن لقَوْله: وَرخّص بعد ذَلِك فِي بيع الْعرية، فَائِدَة وَلَا معنى؟ قلت: معنى الرُّخْصَة فِيهِ أَن الرجل إِذا أعرى الرجل شَيْئا من ثمره فقد وعد أَن يُسلمهُ إِلَيْهِ ليملكه الْمُسلم إِلَيْهِ بِقَبْضِهِ إِيَّاه، وعَلى الرجل أَن يَفِي بوعده وَإِن كَانَ غير مَأْخُوذ بِهِ فِي الحكم، فَرخص للمعري أَن يحبس مَا أعرى بِأَن يُعْطي المعري خرصة تَمرا بَدَلا مِنْهُ من غير أَن يكون إِثْمًا، وَلَا فِي حكم من أخلف موعدا، فَهَذَا مَوضِع الرُّخْصَة.