للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لما تقرر أَن جَمِيع الْحَوَادِث مستندة إِلَى إِرَادَة الله تَعَالَى ابْتِدَاء، وَلَا مُؤثر فِي الْوُجُود إِلَّا الله تَعَالَى. قَوْله: (وَأثْنى عَلَيْهِ) ، من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص، لِأَن الثَّنَاء أَعم من الْحَمد، وَالشُّكْر والمدح أَيْضا ثَنَاء. قَوْله: (مَا من شَيْء لم أكن أريته إِلَّا رَأَيْته) قَالَ الْعلمَاء: يحْتَمل أَن يكون قد رأى رُؤْيَة عين، بِأَن كشف الله تَعَالَى لَهُ مثلا عَن الْجنَّة وَالنَّار، وأزال الْحجب بَينه وَبَينهمَا، كَمَا فرج لَهُ عَن الْمَسْجِد الْأَقْصَى حِين وَصفه بِمَكَّة للنَّاس. وَقد تقرر فِي علم الْكَلَام أَن الرُّؤْيَة أَمر يخلقه الله تَعَالَى فِي الرَّائِي، وَلَيْسَت مَشْرُوطَة بِمُقَابلَة وَلَا مُوَاجهَة وَلَا خُرُوج شُعَاع وَغَيره، بل هَذِه شُرُوط عَادِية جَازَ الانفكاك عَنْهَا عقلا وَأَن يكون رُؤْيَة علم ووحي باطلاعه وتعريفه من أمورهما تَفْصِيلًا مَا لم يعرفهُ قبل ذَلِك. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَيجوز على هَذَا القَوْل أَن الله تَعَالَى مثل لَهُ الْجنَّة وَالنَّار وصورهما لَهُ فِي الْحَائِط، كَمَا تمثل المرئيات فِي الْمرْآة. ويعضده مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أنس فِي الْكُسُوف، فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (الْجنَّة وَالنَّار ممثلتين فِي قبْلَة هَذَا الْجِدَار) . وَفِي مُسلم: (إِنِّي صورت لي الْجنَّة وَالنَّار فرأيتهما بدور هَذَا الْحَائِط) . وَلَا يستبعد هَذَا من حَيْثُ إِن الانطباع كَمَا فِي الْمرْآة إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَجْسَام الصقيلة، لأَنا نقُول: إِن ذَلِك الشَّرْط عادي لَا عَقْلِي، وَيجوز أَن تنخرق الْعَادة خُصُوصا للنبوة، وَلَو سلم أَن تِلْكَ الْأُمُور عقلية لجَاز أَن تُوجد تِلْكَ الصُّور فِي جسم الْحَائِط، وَلَا يدْرك ذَلِك إلَاّ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَالَ: وَالْأول أولى وأشبه بِأَلْفَاظ الْأَحَادِيث، لقَوْله فِي بعض الْأَحَادِيث: (فتناولت مِنْهَا عنقوداً) وتأخره مَخَافَة أَن يُصِيبهُ النَّار. قَوْله: (مَا علمك) ، الْخطاب فِيهِ للمقبور بِدَلِيل قَوْله: (إِنَّكُم تفتنون فِي قبوركم) ، وَلكنه عدل عَن خطاب الْجمع إِلَى خطاب الْمُفْرد، لِأَن السُّؤَال عَن الْعلم يكون لكل وَاحِد بِانْفِرَادِهِ واستقلاله. قيل: قد يتَوَهَّم أَن فِيهِ التفاتاً، لِأَنَّهُ انْتِقَال من جمع الْخطاب إِلَى مُفْرد الْخطاب، كَمَا قَالَ المرزوقي فِي شرح (الحماسة) فِي قَوْله:

(أحمى أباكن يَا ليلى الأماديح)

إِنَّه الْتِفَات، وكما فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} (الطَّلَاق: ١) قلت: الْجُمْهُور من أهل الْمعَانِي على خلاف ذَلِك، وَلَا يُسمى هَذَا التفاتاً إلَاّ على قَول من يَقُول: إِن الِالْتِفَات هُوَ انْتِقَال من صِيغَة إِلَى صِيغَة أُخْرَى، سَوَاء كَانَ من الضمائر بَعْضهَا إِلَى بعض، أَو من غَيرهَا، وَالتَّفْسِير الْمَشْهُور أَن الِالْتِفَات هُوَ التَّعْبِير عَن معنى بطرِيق من الطّرق الثَّلَاثَة بعد التَّعْبِير عَنهُ بطرِيق آخر من الطّرق الثَّلَاثَة، وَهِي التَّكَلُّم وَالْخطاب والغيبة. أما الشّعْر فَإِن فِيهِ تَخْصِيص الْخطاب بعد التَّعْمِيم لكَون الْمَقْصُود الْأَعْظَم هُوَ خطاب ليلى، وَأما الْآيَة فقد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: خص النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالنداء، وَعم بِالْخِطَابِ لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِمَام أمته وقدوتهم، كَمَا يُقَال لرئيس الْقَوْم وَكَبِيرهمْ: يَا فلَان افعلوا كَيْت وَكَيْت، إِظْهَارًا لتقدمه واعتباراً لترؤسه، وَأَنه مَدَرَة قومه ولسانهم، وَالَّذِي يصدر عَنْهُم رَأْيه وَلَا يستبدون بِأَمْر دونه، فَكَانَ هُوَ وَحده فِي حكم كلهم وساداً مسد جَمِيعهم. قَوْله: (بِهَذَا الرجل) أَي: بِمُحَمد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَإِنَّمَا لم يقل: بِي، لِأَنَّهُ حِكَايَة عَن قَول الْمَلَائِكَة للمقبور. وَالْقَائِل هما الْملكَانِ السائلان المسميان بمنكر وَنَكِير. فَإِن قلت: لِمَ لَا يَقُولَانِ رَسُول الله؟ قلت: لِئَلَّا يَتَلَقَّن المقبور مِنْهُمَا إكرام الرَّسُول وَرفع مرتبته فيعظمه تقليداً لَهما لَا اعتقاداً. قَوْله: (أَو الموقن) أَي: الْمُصدق بنبوة مُحَمَّد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَو الموقن بنبوته. قَوْله: (جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) أَي: بالمعجزات الدَّالَّة على نبوته، و: الْهدى، أَي: الدّلَالَة الموصلة إِلَى البغية أَو الْإِرْشَاد إِلَى الطَّرِيق الْحق الْوَاضِح. قَوْله: (فأجبنا) أَي: قبلنَا نبوته معتقدين حقيتها معترفين بهَا، واتبعناه فِيمَا جَاءَ بِهِ إِلَيْنَا. وَيُقَال: الْإِجَابَة تتَعَلَّق بِالْعلمِ والاتباع بِالْعَمَلِ. قَوْله: (صَالحا) أَي: مُنْتَفعا بأعمالك وأحوالك، إِذْ الصّلاح كَون الشَّيْء فِي حد الِانْتِفَاع. وَيُقَال: لَا روع عَلَيْك مِمَّا يروع بِهِ الْكفَّار من عرضهمْ على النَّار أَو غَيره من عَذَاب الْقَبْر، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ صَالحا لِأَن تكرم بنعيم الْجنَّة. قَوْله: (إِن كنت لموقنا) قَالَ الدَّرَاورْدِي: مَعْنَاهُ أَنَّك مُؤمن، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة} (آل عمرَان: ١١٠) أَي: أَنْتُم. قَالَ القَاضِي: وَالْأَظْهَر أَنه على بَابهَا، وَالْمعْنَى: أَنَّك كنت مُؤمنا. يكون مَعْنَاهُ: إِن كنت مُؤمنا فِي علم الله تَعَالَى، وَكَذَلِكَ قيل فِي قَوْله: {كُنْتُم خير أمه} (آل عمرَان: ١١٠) أَي: فِي علم الله. قَوْله: (وَأما الْمُنَافِق) أَي: غير الْمُصدق بِقَلْبِه لنبوته، وَهُوَ فِي مُقَابلَة الْمُؤمن. قَوْله: (والمرتاب) أَي: الشاك، وَهُوَ فِي مُقَابلَة الموقن. وَهَذَا اللَّفْظ يشْتَرك فِيهِ الْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَالْفرق بِالْقَرِينَةِ، وَأَصله: مرتيب، بِفَتْح الْيَاء فِي الْمَفْعُول، وَكسرهَا فِي الْفَاعِل من الريب، وَهُوَ الشَّك. قَوْله: (فقلته) أَي: قلت مَا كَانَ النَّاس يَقُولُونَهُ، وَفِي بعض النّسخ بعده: وَذكر الحَدِيث إِلَى آخِره، وَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات الْأُخَر أَنه يُقَال: (لَا دَريت وَلَا تليت، وَيضْرب بمطارق من حَدِيد ضَرْبَة فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا من يَلِيهِ غير الثقلَيْن) . نسْأَل الله الْعَافِيَة.

<<  <  ج: ص:  >  >>