وَيحك يَا جريج! كُنَّا نرَاك خير النَّاس فأحبلت هَذِه؟ اذْهَبُوا بِهِ فاصلبوه. وَفِي حَدِيث عمرَان: فَجعلُوا يضربونه وَيَقُولُونَ: مراءٍ تخادع النَّاس بعملك؟ وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَلَمَّا مروا بِهِ نَحْو بَيت الزواني خرجن ينظرن، فَتَبَسَّمَ، فَقَالُوا: لم يضْحك حَتَّى مر بالزواني. قَوْله: (وَتَوَضَّأ وَصلى) ، وَفِي رِوَايَة وهب بن جرير: فَقَامَ وَصلى ودعا، وَفِي حَدِيث عمرَان: قَالَ: فتولوا عني، فتولوا عَنهُ، فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أَتَى الْغُلَام، أَي: ثمَّ أَتَى جريج الْغُلَام، فَقَالَ لَهُ: من أَبوك يَا غُلَام؟ قَالَ أَنا ابْن الرَّاعِي، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: ثمَّ مسح رَأس الصَّبِي، فَقَالَ: من أَبوك؟ قَالَ: راعي الضَّأْن، وَفِي رِوَايَة عِنْد أَحْمد: فَوضع إصبعه على بَطنهَا، وَفِي رِوَايَة أبي سَلمَة: فَأتى بِالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيّ وفمه فِي ثديها، فَقَالَ لَهُ جريج: يَا غُلَام من أَبوك؟ فَنزع الْغُلَام فَاه من الثدي، وَقَالَ: أبي راعي الضَّأْن، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: فَلَمَّا أَدخل على ملكهم قَالَ جريج أَيْن الصَّبِي الَّذِي وَلدته؟ فَأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ: من أَبوك؟ قَالَ: فلَان، وسمى أَبَاهُ، وَقد مضى فِي أَوَاخِر الصَّلَاة بِلَفْظ: قَالَ: يابابوس ... ومرَّ شَرحه هُنَاكَ. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا اسْم الْغُلَام، وَفِي حَدِيث عمرَان: ثمَّ انْتهى إِلَى شَجَرَة فَأخذ مِنْهَا غصناً، ثمَّ أَتَى الْغُلَام وَهُوَ فِي مهده، فَضَربهُ بذلك الْغُصْن، فَقَالَ: من أَبوك؟ فَإِن قلت: مَا وَجه الْجمع بَين اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: لَا مَانع من وُقُوع الْكل، فَكل روى بِمَا سمع وَمَا قيل بِتَعَدُّد الْقِصَّة فبعيد. قَوْله: (نَبْنِي صومعتك من ذهب، قَالَ: لَا إلَاّ من طين) . وَفِي رِوَايَة وهب بن جرير: (إبنوها من طين كَمَا كَانَت) ، وَفِي رِوَايَة أبي رَافع: (نَبْنِي مَا هدمناه من ديرك بِالذَّهَب وَالْفِضَّة قَالَ: لَا، وَلَكِن أعيدوه كَمَا كَانَ، فَفَعَلُوا) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ إِيثَار إِجَابَة الْأُم على صَلَاة التَّطَوُّع، لِأَن إِجَابَة الْأُم وَاجِبَة فَلَا تتْرك لأجل النَّافِلَة، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث يزِيد بن حَوْشَب عَن أَبِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَو كَانَ جريج فَقِيها لعلم أَن إِجَابَة أمه أولى من عبَادَة ربه) ، أخرجه الْحسن بن سُفْيَان. قلت: قَالَ الذَّهَبِيّ: حَوْشَب بن يزِيد الفِهري مَجْهُول، روى عَنهُ ابْنه يزِيد فِي ذكر جريج الراهب، وَتمسك بعض الشَّافِعِيَّة بِظَاهِر الحَدِيث فِي جَوَاز قطع الصَّلَاة لإجابة الْأُم سَوَاء كَانَت فرضا أَو نفلا، وَالأَصَح عِنْدهم: أَنه على التَّفْصِيل، وَهُوَ أَن الصَّلَاة إِن كَانَت نفلا وَعلم تأذي الْوَالِد أَو الوالدة وَجَبت الْإِجَابَة، وَإِن كَانَت فرضا وضاق الْوَقْت لم تجب الْإِجَابَة، وَإِن لم يضق وَجَبت عِنْد إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَخَالفهُ غَيره لِأَنَّهَا تلْزم بِالشُّرُوعِ، وَعند الْمَالِكِيَّة: إِن إِجَابَة الْوَالِد فِي النَّافِلَة أفضل من التَّمَادِي فِيهَا، وَحكى القَاضِي أَبُو الْوَلِيد: أَن ذَلِك يخْتَص بِالْأُمِّ دون الْأَب، وَبِه قَالَ مَكْحُول، وَقيل: لم يقل بِهِ من السّلف غَيره. وَفِيه: قُوَّة يَقِين جريج وَصِحَّة رجائه لِأَنَّهُ استنطق الْمَوْلُود مَعَ كَون الْعَادة أَنه لَا ينْطق، وَلَوْلَا صِحَة رجائه بنطقه لما استنطقه، وَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون جريج كَانَ نَبيا فَتكون معْجزَة. وَفِيه: عظم بر الْوَالِدين وَإجَابَة دعائهما، وَلَو كَانَ الْوَلَد مَعْذُورًا لَكِن يخْتَلف الْحَال فِي ذَلِك بِحَسب الْمَقَاصِد وَفِيه صَاحب الصدْق مَعَ الله تَعَالَى لَا تضره الْفِتَن وَفِيه اثبات الْكَرَامَة للأولياء وَوُقُوع الْكَرَامَة لَهُم بإختيارهم وطلبهم. وَفِيه: جَوَاز الْأَخْذ بالأشد فِي الْعِبَادَة لمن يعلم من نَفسه قُوَّة على ذَلِك. وَفِيه: أَن الْوضُوء لَا يخْتَص بِهَذِهِ الْأمة، خلافًا لمن زعم ذَلِك، وَإِنَّمَا الَّذِي يخْتَص بِهَذِهِ الْأمة الْغرَّة والتحجيل فِي الْآخِرَة. وَفِيه: أَن مرتكب الْفَاحِشَة لَا تبقى لَهُ حُرْمَة. وَفِيه: أَن الْفَزع فِي الْأُمُور المهمة إِلَى الله تَعَالَى يكون بالتوجه إِلَيْهِ فِي الصَّلَاة، وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذَا الحَدِيث على أَن من شرع بني إِسْرَائِيل أَن الْمَرْأَة تصدق فِيمَا تدعيه على الرِّجَال من الْوَطْء، وَيلْحق بِهِ الْوَلَد، وَأَنه لَا ينفع الرجل جحد ذَلِك إلَاّ بِحجَّة تدفع قَوْلهَا.
قَوْله: (وَكَانَت امْرَأَة) إِلَى آخِره، قَضِيَّة أُخْرَى تشبه قَضِيَّة جريج (وَامْرَأَة) بِالرَّفْع فَاعل: كَانَت، وَهِي تَامَّة. قَوْله: (فَمر بهَا رجل) ويروى: إِذْ مر بهَا رَاكب جمل، وَفِي رِوَايَة أَحْمد من خلاس عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: فَارس متكبر. قَوْله: (ذُو شارة) ، بالشين الْمُعْجَمَة وبالراء المخففة أَي: ذُو حسن وجمال، وَقيل: صَاحب هَيْئَة وملبس حسن يتعجب مِنْهُ ويشار إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة خلاس: (ذُو شارة حَسَنَة) . قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور وَفِيه الْمُبَالغَة فِي إِيضَاح الْخَبَر بتمثيله بِالْفِعْلِ. قَوْله: (ثمَّ مر بِأمة) ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء على بِنَاء الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن وهب بن جرير: (بِأمة تضرب) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة الْآتِيَة فِي ذكر بني إِسْرَائِيل: (تجرر ويلعب بهَا) ، وتجرر بجيم مَفْتُوحَة بعْدهَا رَاء مُشَدّدَة ثمَّ رَاء أُخْرَى، وَفِي رِوَايَة خلاس: (أَنَّهَا كَانَت حبشية أَو زنجية وَأَنَّهَا مَاتَت، فجروها حَتَّى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute