وابن عباس روى هذا الحديث، وفهِم منه هذا المعنى، وهو أعلم بما سمِع، لكن لم يبلغه حديثُ بلال أنه - صلى الله عليه وسلم - صلَّى داخل الكعبة، فحمل الحديثَ على العموم في المكتوبة والتطوع. فالواجب أن يوضع حديثُ ابن عباس موضعَه، وحديثُ ابن عمر موضعَه، ويُعمَل بكلا الحديثين.
يبيِّن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما صلَّى داخله أغلق عليه البابَ، وكانت الفرائض كلُّها إنما يصلِّيها خارجَ البيت. ولو كانت المكتوبة جائزة في البيت لكان يمكنه أن يصلِّي المكتوبة بالناس في الحِجْر تحصيلًا لفضيلة أداء الفرض في الكعبة. فلما لم يفعل شيئًا من ذلك دلَّ على أنَّ ذلك خاصٌّ بالتطوع.
وهذا لأنَّ الشارع يوسع في تجويزه على أحوال شتَّى لا تجوز في المكتوبة، خصوصًا في أمر القبلة، فإنه جوَّز التطوعَ للمسافر السائر إلى أيِّ جهة توجَّه لقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة: ١١٥]، لئلا يكون الاستقبال مانعًا له من الصلاة. فكذلك من دخل بيتَ ربِّه وأحبَّ الصلاة لربِّه فيه لا يمكنه ذلك مع الاستقبال التام، فعُفي له عن كمال الاستقبال إذا أتى بالممكن منه تحصيلًا لمقصود الزيارة وتحية البيت، إذ كان هذا المقصود لا يمكنه فعلُه إلا في البيت، وكان فرضُ كمال الاستقبال لا يمكن معه تحيَّةُ البيت والصلاةُ فيه لله، وذلك أمر مطلوب كما قلنا في صلاة المسافر سواء. فأما الفرض فلا اختصاص له بمكان دون مكان، فكانت المحافظة على كمال الاستقبال الذي هو شرط أولى من فعله في نفس البيت، ولا حاجة إلى فعله في البيت، فلم يسقط فرضُ الاستقبال بحال. ولهذا مضت سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنَّة خلفائه الراشدين بذلك. ألا ترى أن الفرض لو كان مشروعًا في البيت لكان ينبغي أن يقف الامام في