وروى أبو حفص (١) عن المطَّلب بن حَنْطَب أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا وجَّهتَ وجهَك نحو البيت الحرام». يعني ــ والله أعلم ــ إذا وجَّهتَ وجهَك قِبلَه وتُجاهَه. وذلك يحصل باستقبال جهته، كما في قوله تعالى:{فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}[البقرة: ١٤٤] أي نحوَه وتلقاءَه. وأراد أن يبيِّن - صلى الله عليه وسلم - أنه لا بد من قصد جهتها.
وأيضًا فإنهم أجمعوا على صحة صلاة الصفِّ المستطيل الزائد طوله على سَمْتِ الكعبة مع استقامته، بل على صحة صلاة أهل البلد الذي فيه مساجد كثيرة تصلِّي كلُّها إلى جهة واحدة، مع أنها يمتنع أن تكون [ص ٢٠٣] قبلتها على خطٍّ مستقيم، وهي كلُّها على سَمْتِ عين الكعبة.
فإن قيل: مع البعد تحصل المواجهة والمحاذاة لكلِّ واحد مع كثرة المحاذين وطول صفِّهم، لأنَّ المحاذي مع البعد وإن احتاج إلى تقوُّس وانحناء، فهو مع البعد شيء يسير لا يضبط مثله.
قلنا: لو كان المفروض محاذاة نفس العين لوجب مراعاة ذلك الشيء اليسير من الانحناء مع القدرة، وأن لا يُتعمَّد تركُه، كما في القريب. فمتى سُلِّم جوازُ تعمُّدِ تركه فلا يُعنى باستقبال جهة الكعبة إلا ذلك، فيرتفع الخلاف.
وهذا المعنى هو الفارق بين القريب والبعيد، فإنَّ البعد إذا طال يكون المستقبِل للجهة والعين متقاربين جدًّا، حتَّى لا يكاد يميَّز بينهما. ومثل هذا يعفى عنه، كما عفونا عن سائر الشرائط مما يشقُّ مراعاته، مثل يسير النجاسة، ويسير العورة، والتقدُّم اليسير بالنية، وشبه ذلك؛ فإنَّ الدين أيسر
(١) أورده ابن رجب في «فتح الباري» (٣/ ٦١)، بإسناد أحمد من رواية صالح، وقال: «حديث مرسل».