للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن أصحابنا من يحكي روايةً ثالثة في الناسي والمكره: أنه لا قضاء عليه ولا كفّارة.

وكقول أحمد في رواية ابن القاسم: كلُّ أمر غُلِب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا كفّارة.

وقال أبو داود (١): سمعته غير مرَّة لا يَنْفُذُ (٢) له فيها قول. يعني مسألة مَن وطئ ناسيًا.

ووجه الأول: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمر الأعرابيَّ بالكفّارة ولم يستفصله: هل كان ناسيًا أو جاهلًا؟ مع أن هذا الاحتمال ظاهر، بل هو الأظهر، فإن الرجل المسلم لا يكاد يفعل مثل هذا عالمًا عامدًا، لاسيما في أول الأمر، والقلوب مقبلة على رعاية الحدود، والجهلُ بمثل هذا خليق أن يكون في الأعراب؛ فإنهم أجْدَر أن لا يعلموا حدودَ ما أنزل الله على رسوله.

وليس في قوله: «هلكتُ» ما يدلّ على أنه فعل ذلك عالمًا عامدًا؛ لجواز أنه لما ذُكّر أو أُخْبر أن هذا محرّم في الصيام خاف أن يكون هذا من الكبائر، وقد كانوا يخافون مما هو دون هذا، كما قال عمر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتيتُ اليوم أمرًا عظيمًا، قَبَّلت وأنا صائم» (٣).


(١) في «المسائل» (ص ١٣٢)، وانظر: «المغني»: (٤/ ٣٨٠).
(٢) في النسختين: «ينقل»، والمثبت من المسائل وهو الصواب.
(٣) أخرجه أبو داود (٢٣٨٥)، والنسائي في الكبرى (٢٩٤٥)، والبزار (٢٣٦)، وابن خزيمة (١٩٩٩)، وابن حبان (٣٥٤٤)، والحاكم: (١/ ٤٣١) وصححه على شرطهما، والصحيح أنه على رسم مسلم فقط. والحديث حسّنه علي بن المديني، وصححه أيضًا ابن خزيمة وابن حبان والضياء في «المختارة» (٩٩)، لكن ضعّفه الإمام أحمد فقال: «هذا ريح ليس من هذا شيء» نقله في «المغني»: (٤/ ٣٦١)، وقال النسائي: «حديث منكر وبُكير مأمون، وعبد الملك بن سعيد روى عنه غير واحد، ولا ندري ممن هذا». قال ابن عبد الهادي: «وإنما ضعف الإمام أحمد هذا الحديث وأنكره النسائي مع أن رواته صادقون، لأن الثابت عن عمر خلافه؛ فروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب: أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن القبلة للصائم، فقيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبّل وهو صائم. فقال: من ذا له من الحفظ والعصمة ما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! وقد حمل أبو عمر بن عبدالبرّ قولَ عمر هذا على التنزيه، فقال: لا أرى معنى حديث ابن المسيب في هذا الباب عن عمر إلا تنزّها واحتياطًا منه، لأنه قد روي فيه عن عمر حديث مرفوع، ولا يجوز أن يكون عند عمر حديث ويخالفه إلى غيره». وينظر «مسند الفاروق»: (١/ ٢٧٧ - ٢٧٩)، و «تنقيح التحقيق»: (٣/ ٢٣٤ - ٢٣٧).