للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأما الأعمى أو البصير الذي لا يعلم أدلَّتها، أو يعلمها اسمًا ووصفًا، ولا يعلمها عينًا، فليس بمجتهد سواء كان فقيهًا أو لم يكن، لأنَّ المجتهد في كلِّ فنٍّ هو القادر على الاستدلال على مطالبه بسهولة.

فأما المجتهد، ففرضُه العملُ بما أدَّاه اجتهاده إليه، سواء خالفه غيره أو وافقه، وسواء كان أعلم منه أو لم يكن، وسواء اجتهد أو لم يجتهد، إذا كان الوقت متسعًا للاجتهاد، كما قلنا في المفتي والقاضي، وكما في الاجتهاد في أمور الدنيا وغيرها.

قال أصحابنا: وإن أمكنه أن يتعلَّم دلائل القبلة، ويستدلَّ بها قبل أن يضيق الوقت= لزمه ذلك، لأنه قادر على التوجُّه بالاجتهاد، فلم يجُز له التقليد كالعالم بالأدلَّة. وذلك لأنَّ مؤنة تعلُّم أدلَّة القبلة يسيرة، لا تشغل الإنسان عن مصالحه، فأشبه تعلُّمَ الفاتحة وصفة الوضوء وغيرهما (١) من فرائض الصلاة، بخلاف تعلُّم أدلَّة الأحكام الشرعية وطريق الاجتهاد فيها، فإنَّ تكليف العامَّة ذلك يشغلهم عن كثير من مصالحهم التي [ص ٢١٤] لا بدَّ لهم منها. فإن ضاق الوقت عن تعلُّم الأدلَّة والاستدلال بها، فهو بمنزلة العاجز عن تعلُّم الأدلَّة، يقلِّد غيرَه. فإن تعذَّر عليه الاجتهاد مع قدرته عليه لكونه محبوسًا في ظلمة صار فرضه التقليد، بمنزلة المقلِّد الذي لا يُحسن الاستدلال. هكذا ذكر القاضي وغيره من أصحابنا، وذكروا أن أحمد أومأ إليه. ومن أصحابنا من قال: هذا بمنزلة المقلِّد الذي لا يجد من يقلِّده، يصلِّي على حسب حاله.

والصواب أنَّ هذا الإطلاق يجب أن يُحمَل على ما إذا لم يجد من


(١) في المطبوع: «وغيرها»، والمثبت من الأصل.