تحويل المصائب إلى نِعم
تأتي الضرورة للشيء من آثار الشيء، فنحن نحتاج إلى الهواء ونقول: ضروري لأن عليه مدار الحياة، ونحتاج إلى الماء؛ لأن عليه مدار الحياة، ونحتاج إلى الغذاء؛ لأن عليه مدار الحياة، لكن الإيمان ليس مدار الحياة الدنيا فقط، بل عليه مدار السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فهو أعظم ضرورة من الهواء والغذاء والماء، كيف؟ أولاً: لأن الإنسان في هذه الدنيا لا يخلو من حالتين: إما نعماء أو ضراء.
وبغير الإيمان في النعماء يكفر وفي الضراء يضجر، فإذا أصابته نعمة بطر وتكبر وطغى، ولم ير إلا نفسه، وظن أن الناس كلهم غير موجودين إلا هو، وإذا أصابته ضراء في غير الإيمان يضجر، ويسخط، ويضعف، ويتلاشى، وتظلم الدنيا في وجهه، حتى إن بعضهم يموت داخل نفسه مما عليه من المصيبة، يموت وتكفهر الدنيا في وجهه، ويعيش حياةً لا يمكن أن يعيشها بشر، لماذا؟ لعدم وجود الإيمان، لكن إذا وجد الإيمان في القلب فالنعماء تتحول إلى نعمة، والضراء تتحول إلى منحة، فالنعماء إذا جاءت للمؤمن سخرها في طاعة الله، واستعان بها على ما يحبه الله ويرضاه، ولم يبطر ولم يكفر ولم يفجر ولم يتعاظم ولم يستكبر، وإنما استعان بكل ما آتاه الله عز وجل من نعم في طاعة الله، فتصبح النعمة له منحة؛ لأن الله يقول: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٥].
وإذا أصيب المؤمن بمصيبة ونظر إليها وإلى حجمها وضخامتها، ثم تذكر أن الله عز وجل إنما يبتليه ليرفع درجته، ويعلي منزلته ويثيبه عليها صبراً لها، وتلقاها بصدرٍ رحب وفرح بها، يقول تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:١٥٥] من هم (الصابرين)؟ إنهم أهل الإيمان {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٦ - ١٥٧].
تجد المؤمن عندما يموت ولده ويتذكر أن الله أعد له في الجنة قصراً سماه (بيت الحمد) فيقول: الحمد لله، ويحمد الله من قلبه، وتكون هذه الكلمة على قلبه مثل الثلج النار تضطرم في سويداء قلبه حزناً على ولده، لكنه يتذكر القصر الذي أعده الله له في الجنة، فيقول: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى: (إذا قبضت الملائكة روح عبدٍ مؤمن، قال الله لملائكته: قبضتم فلذة كبده؟ قالوا: نعم.
فيقول الله: ماذا صنع؟ فيقولون: حمدك واسترجع -قال: الحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون- فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد).
ومن كان له بيت في الجنة لا يدخل النار.
فهذه بشرى، فمن له بيت في الجنة لا يدخل النار إلا إذا كان الخراب منك أنت، بنيت بيتاً لكنك رفضت أن تدخله، وذهبت إلى الدار الأخرى، فإذا بنيت بيتاً في الجنة بأن صبرت على مصيبة فقد ولدك، أو بنيت لله مسجداً، وقد جاء في الحديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له قصراً في الجنة) فأنت عملت بأعمال الدين حتى أدخلك الله الجنة، ثم أنت تخالف وتضع الموانع والعوائق والمنغصات، وتحول بينك وبين دخول الجنة، فالسبب والخلف جاء منك وليس من الله عز وجل.
فالإيمان ضرورته تأتي من أنه يحوِّل لك النعمة إلى نعمة، والمصيبة إلى نعمة، فتعيش -أيها الإنسان- في نعمة طوال حياتك، فإذا كنت فقيراً وأنت مؤمن تقول: الحمد لله الذي زوى عني الدنيا، والله لا أريدها، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو أردت الدنيا لسارت الجبال معي ذهباً وفضة، ولكن أريد أن أشبع يوماً وأجوع آخر) فإذا شبعت أو جعتَ حمدت الله عز وجل، فالفقر بالإيمان يصير نعمة، فإذا كان الفقير مؤمناً فلا تراه إلا متفرغاً لطاعة الله، تالياً لكتاب الله، عامراً لبيوت الله، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، محباً في الله، يزور إخوانه في الله، يقوم الليل، يصوم أكثر الدهر فهذا الفقر كان سبباً في دخوله الجنة.
فهو نعمة.
لكن إذا كان الفقير ليس عنده إيمان -والعياذ بالله- فهو مثل فقير اليهود.
لا دين له ولا دنيا! أولاً: يتقطع قلبه وتذهب نفسه حسرات عندما يرى سيارة تعرض، أو عمارة تقوم، أو أرضية تُشترى، أو دكاناً يُباع، فيعترض على قضاء الله وقدره: لماذا الله أعطى هذا؟ ولماذا لا أكون مثلهم؟ فلان لديه سيارة وأنا ليس لدي سوى رجلين، ومعه عمارة وأنا أسكن في كوخ، فيتقطع قلبه، وبعد ذلك يملأ وقته بمعصية الله، تجده في المقاهي وبين المخدرات؛ لأنه ليس عنده شيء، وتجده -والعياذ بالله- في الأسواق وعلى الأرصفة، والأفلام، والسفر إلى الخارج بالباطل، لماذا؟ لأنه فقير فاجر -والعياذ بالله- لكن لو أنه مؤمن لكان فقره هذا سبب نجاته من عذاب الله.