[أهمية الخشوع]
ولأهمية الصلاة وعظم شأنها وسمو منزلتها في الإسلام كانت الأوامر الربانية والنبوية في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحث وتؤكد على ضرورة الالتزام بها شكلاً ومضموناً، والذي يؤسف له أن الكثير يتقن الشكل الخارجي في البناء لكنه يهمل المضمون، يهمل الروح التي هي حقيقة الصلاة ألا وهي: الخشوع.
وحتى لا ينخدع الإنسان بكونه يصلي ويضيع المهم في الصلاة وهو الخشوع، فإنني أوجه هذه الرسالة إلى كل مصلٍ ليتق الله عز وجل في نفسه، ولا يخدع نفسه، وليجاهدها حتى يؤدي الصلاة كما أراد الله وكما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم من قرارة نفسه أنه إن صلى من غير خشوع أن صلاته كأنها ما وقعت؛ لأنه يكتب للعبد من صلاته ما حضر فيها قلبه، الصلاة حركة قلب قبل أن تكون حركة بدن، فإذا تحرك البدن وقام وقعد وركع وسجد ولكن القلب خالٍ من ذكر الله وعظمته، مشغول بالدنيا، مفكر في حطامها خارج المسجد، فهذا مسكين ما صلى، ولذا قد يصلي الرجلان ويكون بينهما كما بين السماء والأرض، شخص خاشع يجول في العرش، والآخر غافل قلبه يدور في الحش، يعني: في الدنيا -والعياذ بالله- ولذا يذكر الإمام ابن القيم رحمه الله وهو خير من تناول هذا البحث، وقد عني العلماء في القديم والحديث بأمر الخشوع في الصلاة بما له من أهمية؛ لأنه يترتب عليه قبول الصلاة أو ردها.
عني ابن القيم بهذا الأمر في مجموع كتبه وبالأخص منها كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب، وشيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً، وبعض علماء الإسلام منهم الإمام الآجري في كتابه: الخشوع في الصلاة، وفي رسالة حررتها أحد الأخوات في الله اسمها رقية بنت محارب بعنوان كيف تخشعين في الصلاة وجهتها إلى الأخت المسلمة، وقد قرأت هذه الرسالة مع مجموع ما قرأت من المراجع الأخرى، وحصلت على هذه المجموعة من الكلمات التي أوجهها إلى كل مسلم ومسلمة في هذه الحياة ليتقوا الله عز وجل في أمر صلاتهم ويدافعوا الشيطان، ولا يستسلموا لنزغاته فإن الشيطان حريص كل الحرص على أن يقطعك عن الله عن طريق ترك الصلاة، فإذا عجز وبرهنت على قوة إيمانك وصدق يقينك بأن تركت الدنيا وراء ظهرك وجئت إلى المسجد لتصلي ولتقف بين يدي الله عز وجل فإن الشيطان لا يتركك لهذا الأمر، بل يجلب عليك بخيله ورجله، ويأتيك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، ويزين لك الدنيا ويذكرك بكل ما لم تكن تذكره قبل الصلاة؛ حتى تخرج من الصلاة وليس معك منها شيء.
ولذا ورد في بعض الآثار أن الشيطان يقول للداخل إلى المسجد: ادخل فوالله لأخرجنك منها مثلما أدخلتك.
يعني: قم واركع واسجد وتوضأ واترك أهلك ونومك لكن الطريق من عندي.
فلا ينبغي أيها الإخوة! أن نصدق ظن الشيطان، بل علينا أن ندحره وأن نستعيذ بالله من شره، وأن نحصر اهتمامنا في عشر دقائق، فإن الصلاة مهما طالت كانت مغرباً، أو عشاء أو فجراً، أو ظهراً، أو عصراً لا تتجاوز في الغالب عشر دقائق جاهد نفسك بقوة وبعنف في ألا تتفكر إلا في الصلاة، ولا تتفكر إلا في الجنة والنار بحيث تخرج من الصلاة وقد اطمأن قلبك، وخشعت جوارحك، وعرفت أنك قدمت عملاً صالحاً؛ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً، يقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} [الكهف:١١٠] ما هو العمل الصالح؟ قال العلماء: الصالح أصوبه وأخلصه، أصوبه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخلصه لله تبارك وتعالى.
الخشوع في الصلاة روح الصلاة.
الصلاة جسد والخشوع روحها، فإذا توفر الجسد والروح بقيت حياة الصلاة، أما إذا وجد الجسد وخرجت الروح فلا قيمة للجسد، شأن الصلاة شأن الإنسان، الإنسان له قيمة بمجموع أمرين: روحه التي بين جنبيه وجميع جوارحه، فإذا خرجت روحه هل يبقى للجسد قيمة؟! لا يبقى له قيمة أبداً، فالمعول الأول والأخير على الروح وهو الخشوع فهو روح الصلاة، فمن كان خاشعاً في صلاته فهو يصلي، أما الذي يصلي وقلبه في الدكان أو المزرعة أو الزوجة أو المدرسة، أو التجارة، أو مشاكل الدنيا، فلا يصلي.
فبعض الناس لا تنتهي أشغاله، دائماً مشغول طوال اليوم فمتى يخلو إلى أفكاره؟ إذا صليت.
فإذا دخل في الصلاة بدأ يفكر في عمارته وسيارته ومشاكله، لماذا؟ لأنها فرصة ليس عنده وقت يفكر، إذا خرج يفكر في الدنيا من جديد ولكن هناك فرصته، فيأتيه الشيطان ليقذف في قلبه الوساوس والأفكار والخطرات حتى يخرج منها، بدرجة أنك لو أجريت استفتاء في أي مسجد للمصلين بعد أي صلاة من صلاة الجهر وقلت لهم: ماذا قرأ الإمام في الصلاة؟ فإنه لا ينجح إلا القليل، وهذا الكلام يمكن أن نجريه الآن في هذا الوقت، لو نسأل أنفسنا الآن وقد صلينا وسمعنا القراءة من الإمام: ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى وفي الركعة الثانية من صلاة المغرب؟ الذي يعرف هو الذي صلى، والذي ما عرف إنما هو قائم مثل العمود، العمود يصلي أربعاً وعشرين ساعة لكن لو سألنا العمود وقلنا له: يا عمود ماذا قرأ الإمام؟ يقول: لا أعلم، حسناً اسأل العمود الثاني الذي وقف عشر دقائق: يا عمود ماذا قرأ الإمام؟ قال: لا أدري، إذاً: ما الفرق بين العمودين؟ الفرق شاسع، إن هذا يقف أربعاً وعشرين ساعة فهو من الإسمنت موجود دائماً وأنت عشر دقائق وما قدرت أن تفهم ما يلقى عليك من أوامر الله ومن أوامر النبي صلى الله عليه وسلم.
كان السلف رحمهم الله يولون اهتماماً كبيراً لهذه الصلاة وللخشوع فيها.
ولذا يروى عن حاتم الأصم -وكان من التابعين رحمه الله- أنه كان من أخشع عباد الله في صلاته، قيل له: كيف تصنع إذا صليت؟ قال: إذا سمعت نداء ربي توضأت، ثم أقبلت على مسجدي -يعني: يصلي في المسجد- ثم وقفت بين يدي الله، فأتصور أن الصراط تحت قدمي، وأن الجنة عن يميني، وأن النار عن يساري، وأن الكعبة أمامي، وأن ملك الموت سيقبض روحي بعد أداء الصلاة.
فربما لا أصلي إلا هذه الصلاة، ومن الذي عنده يقين أنه يعيش إلى الفجر؟ ربما لا تصلي إلا هذه الصلاة وتكون آخر شيء من حياتك، فصلِّ صلاة مودع، وإذا صليت بخشوع ومت، ختم الله لك بالمضبوط، لماذا؟ لأن الله يعطيك يوم القيامة على أحسن عمل {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:٣٨] يعني: يأتي بصلاته كلها، وإذا مت على آخر صلاة مضبوطة يضرب الله صلواتك في أحسن شيء صليت، فصل صلاة مودع.
قال: فأتصور أن ملك الموت خلف ظهري يقبض روحي فلعلي لا أصلي بعدها صلاة، ثم أكبر بتحقيق، وأقرأ بترتيل، وأركع في خضوع، وأسجد في خشوع، وأتشهد في يقين، وأسلم في رجاء، ولا أدري أقبلت صلاتي بعد هذا أم ردت عليَّ؟! هذا موقفه وهذا عمله مع صلاته ولا يدري أقبلت صلاته أم ردت عليه!