للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإيمان بالله والعمل الصالح]

أول عنصر من عناصر السعادة: هو الإيمان بالله والعمل الصالح: وقد جاء هذا مصرحاً به في كتاب الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:٩٧] وهذه الكلمة: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ) يعرف أهل اللغة ما فيها من المؤكدات؛ فاللام المؤكدة والنون المثقلة شديدة التوكيد (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، ما هي الحياة الطيبة؟ ليست حياة البطون ولا الفروج ولا الشهوات, إنها حياة القلب -والنفس- وقد كان حياً قبل أن يعمل الإيمان والعمل الصالح؟ قالوا: كانت حياته حياة خبيثة؛ بعيدة عن الله, فليس بحي بل هو ميت، والله تعالى يقول: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً} [الأنعام:١٢٢] كان ميتاً بالكفر والمعاصي والذنوب (فأحييناه) بالإيمان, ولا يستوي الحي والميت كما قال الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر:١٩] * {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:٢١] * {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:٢٢]، فرق بين هذا وذاك, فمن يعش حقيقة الإيمان ليس كمن يعيش حياة اللهو, ولهذا يقول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ} [الرعد:١٩].

فالإيمان هو أساس السعادة؛ وهو عنصر السعادة الأول, فإذا وجد الإيمان وجدت السعادة ولو لم توجد البقية, وإذا فقد الإيمان والعمل الصالح فقدت السعادة ولو توفرت للإنسان جميع أسباب السعادة الأخرى؛ لأنه هو الأساس, وهل يمكن أن تقوم عمارة بغير أساس؟ لا.

بل أول شيء الأساس, ثم بعد ذلك يمكنك أن تكمل الدور الثاني والثالث والرابع فلا يمكن أن تبني الدور الثاني في الهواء بدون أساس وقواعد, ولذلك الناس الآن يبنون عمارة السعادة في الهواء؛ يبنون السعادة بالمال، وبالزوجة، والمنصب، والأفلام والمسلسلات، والتمشيات، يبنون سعادة في البر والبحر والرحلات، لا.

ابدأ السعادة من تحت, ابنِ سعادتك على الإيمان والعمل الصالح، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [النحل:٣٠] ما هي الحسنة هذه؟ قالوا: هي الحياة الطيبة التي يعيشها المؤمن, ويقول الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]، لا تطمئن القلوب بالمال, المال تنتفخ به الجيوب وترتفع الأرصدة, وبالأكل تطمئن البطون, وبالزوجات تطمئن الفروج, لكن القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله -أي: دين الله- ولهذا جاء بإشارة هنا وسبقها بأداة الإشعار (ألا) للاستهلال {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨] * {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ} [الرعد:٢٩] قال العلماء: طوبى جنة الدنيا وبعدها قال سبحانه: {وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:٢٩] أي: الجنة.

طوبى لهم، أي: في هذه الدنيا العاجلة، ولهذا يقول أحد العلماء: إن في الدنيا جنة من لم يذقها لم يدخل جنة الآخرة.

ويقول آخر: مساكين أهل هذه الحياة؛ جاءوا إليها وخرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: التلذذ بطاعة الله.

وآخر يقول: والله لو يعلم أهل الجاه والسلطة ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليه بالسيوف.

كان شيخ الإسلام رحمه الله مسجوناً في سجن القلعة بـ دمشق، يقول ابن القيم: كنا إذا أظلمت علينا الدنيا وضاقت بنا النفوس ذهبنا إليه نزوره في القلعة, فوالله ما هو إلا نراه حتى نشعر بالسعادة.

وكان شيخ الإسلام يقول: المسجون من سجنه هواه, والمأسور من أسره شيطانه.

ثم يقول: ما يصنع بي أعدائي؟! إن جنتي وبستاني في صدري, أنى سرت فهي معي.

إن قتلي شهادة, وإخراجي من بلدي سياحة, وسجني خلوة.

فما يصنع بي أعدائي أكثر من هذا؟! انظروا! يعيش في سجن ومع هذا يشعر بالسعادة, من الذي أدخل السعادة في قلبه؟ إنه الإيمان والعمل الصالح, بينما لو لم يكن عنده إيمان ولا عمل صالح وهو يعيش في قصر فإنه يشعر بالضيق, هأنتم ترون الآن في أوروبا وهم يعيشون في ناطحات السحاب ولكنهم في عذاب.

يخبرني أحد الإخوة ممن يقيم في السويد، يقول: السويد من الدول الإسكندنافية الراقية: فـ الدنمارك والسويد والنرويج مستوى الدخل فيها مرتفع, والحياة والمعيشة شيء لا يتصوره العقل, والدولة تصرف لكل واحد منهم مبالغ، وضماناً صحياً واجتماعياً، وتصرف رواتب ضخمة, والآلات مطورة ومسخرة، والنظافة معممة لدرجة أنك لا تجد عقب سيجارة ولا قصاصة ورق في شوارعهم, بل حتى الكلاب تعرف أنظمة السير؛ يأتي الكلب ويقف عند الإشارة حتى تؤشر ويمشي، والبقر تغتسل في هولندا كل يوم مرتين -حمام في الصباح وحمام في الليل- ومع هذا يقول لي الأخ: هم في أسوأ حياة يعيشونها, يقول: لا ينامون إلا بفعل الحبوب والمخدرات, وإذا نام الإنسان في (٢٤) ساعة نصف ساعة أو ساعة يأتي إلى زملائه في المصنع أو المكتب أو العمل ويبشرهم بأنه نام في البارحة, وعندنا يضع الشخص رأسه (٨) ساعات بدون حبوب أو أي منوم وهذا من فضل الله, لماذا؟ لأنه مؤمن بالله, وإن كان إيمانه ضعيفاً فهو أفضل بكثير من فقدان أولئك للدين.

مليونير أمريكي يدعى روكفلر اشترى جزيرة من جزر المحيط الهادي , وغرس فيها وسواها وضبطها، ثم قال: أريد أن أجلس فيها, قالوا: لماذا؟ قال: ضجيج المصانع وأزيز الطائرات وهدير الناس أزعجني! أريد أن أنام, فذهب، وعندما وصل إليها وجدها هادئة لا صياح فيها ولا صراخ, فجلس نصف ساعة وركب طيارة وقال: لا تصلح! يبحث عن السعادة.

وبعضهم ينتحر لماذا؟ لأن المادة تضغط عليه حتى تفجر النفس الداخلية, فلا يجد مخرجاً من هذا العذاب الذي هو فيه إلا بالموت, ويسأل نفسه: لماذا أنا أعيش؟ فتجيبه النفس: تعيش من أجل أن تأكل, ويقول: لماذا آكل؟ فتقول: تأكل من أجل أن تعيش, فيقول: أعيش لآكل وآكل لأعيش! وبعدها تموت, قال: ما دمت سأموت فسوف أموت الآن, فيقدم على الانتحار؛ وأعلى نسبة للانتحار هي في تلك الدول؛ لأنهم فقدوا الإيمان بالله والعمل الصالح.

فأعظم شيء هو الإيمان, فبالإيمان والعمل الصالح تجيب على التساؤلات التي تنبعث داخل النفس البشرية عن الحياة: ما هذه الحياة؟ من أين جئت إليها؟ ولماذا؟ وما دوري؟ وبعد أن أموت أين سيذهب بي؟ هذه التساؤلات لا تجيب عليها الماديات أبداً.

لا يجيب عليها إلا الدين, فإذا عرف الإنسان حقيقته وأنه جاء ليعبد الله، وأنه بعد هذه الحياة سيلقى الله, فإنه يجد أمناً وطمأنينة.

مثلاً: فأنتم بعد المحاضرة يذهب كل واحد إلى بيته أو عزبته, وما عندكم الآن أي قلق, لماذا؟ لأنكم تعرفون إلى أين أنتم ذاهبون, فكل واحد يخرج ويقود سيارته أو يركب مع زميله ويمشي, ولو أخذنا شريحة من نفسه وحللناها لوجدناها طبيعية وليس عنده أي قلق أو هم, لكن لو خرج شخص من هنا وعند باب الكلية اعتدي عليه من قبل مجموعة مسلحة، وغطوا عيونه ورموه في صندوق السيارة, ومشوا به وأخرجوه إلى منطقة بعيدة في صحراء, ثم فكوا الرباط الذي على عينه, وبعد ذلك جئنا لنحلل نفسيته أهي مطمئنة أو قلقة؟

الجواب

قلقه، لماذا؟ لأنه لا يعرف أين يذهب, وتبدأ عنده الاحتمالات: ماذا يريدون مني؟ يقتلونني، أم يسجنونني، أم يرمونني؟ لماذا جئت إلى هنا؟ ويبدأ القلق يتزايد.

هذا مثال مصغر لطبيعة الحياة.

ولكن عندما تذهب إلى مكان باختيارك وتعرف إلى أين أنت ذاهب باختيارك تكون مطمئناً, ولكن عندما تؤخذ إلى مكان ليس لك فيه رأي ولا تدري ما الذي سيحصل لك فإن القلق يبدأ بالسيطرة عليك، فهل أنت -أيها الإنسان- يوم جئت إلى هذه الحياة كان باختيارك أم جيء بك رغم إرادتك؟ وبعدها عندما تمضي فترة العمر ثم تموت، أتموت باختيارك أم رغم إرادتك؟ الجواب: رغم إرادتك، فأنت جئت بغير اختيارك وكذلك تموت بغير اختيار، وحينها يبقى عندك القلق إلى أن تعرف لماذا جئت؟ وإلى أين تذهب بعد أن تموت؟ أما سؤالك: لماذا جئت قد أخبرك الله تعالى بجوابه، وحل لك المشكلة وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] وأخبرك أن بعد الموت حياة، وبعد الحياة حساب وجزاء، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:٣١] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم في الدار الآخرة: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:٢٦] * {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس:٢٧] هل تتصور وأنت تعمل السيئات أن يكون جزاؤك مثل جزاء الذي يعمل الصالحات؟ لا.

هذا سوء ظن بالله, ولهذا يقول الله وهو يستبعد هذا عن الناس: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:٢١] * {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:٢٢] لا يمكن أ