للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حامل القرآن شريف النفس متواضع للصالحين]

ومما ينبغي لحامل القرآن: أن يكون شريف النفس، مترفعاً عن الدنايا، متواضعاً للصالحين، مكرماً للمساكين، وهذا خلق أهل القرآن؛ لأن الله عَزَّ وَجَلّ يقول: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:٥٤] لكن بغير القرآن لا.

يصبح الذي ليس عنده قرآن ذليل عند الكفار عزيز عند المؤمنين، فإذا رأى كافراً تراه متذللاً له، وإذا رأى مؤمناً تراه متعالٍ عليه؛ لأنه لا يوجد في قلبه شيء من القرآن، فلو وُجد في قلبه القرآن حقيقةً لتواضع لأهل الإيمان.

وإذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو سيد الأولين والآخرين، كان جلساؤه هم الضعفاء والبسطاء والمساكين والمماليك (صهيب الرومي - وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وابن أم مكتوم الأعمى) ولما جاء في يوم من الأيام وأراد أن يجمع المشركين للجلوس معهم قالوا له: لا نجلس مع العبيد والضعفاء والفقراء، نحن أعزاء وصناديد قريش، فاجعل لنا يوماً ولهم يوماً، فأراد أن يفعل هذا، فقال الله له: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:٢٨] أي: لا تجلس مع هؤلاء، ولما دخل عليه الأعمى ابن أم مكتوم، عبد الله بن قيس رضي الله عنه، وهو يريد أن يتعلم من الدين، وكان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغولاً في مجلسه مع بعض صناديد قريش طمعاً في هدايتهم، والرجل ينادي ويقول: يا رسول الله! علمني مما علمك الله، ولم يعرف بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغولاً، ولو أنه عرف أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغولاً ما تكلم، فكره منه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الموقف؛ لأنه جاء في وقت غير مناسب وهو مشغول مع هؤلاء، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطمع أن يجري معهم صفقة الإيمان، حتى إذا أسلموا أسلمت مكة بأسرها، فإنه لم يكن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغولاً بصفقة دنيوية أو بصفقة معاملات، وإنما كان مشغولاً بالدين، ولكن قطّب وعبس ولم يتكلم، أي: كشر فقط، فنزل القرآن من السماء يخطّىء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعاتبه ويقول: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:١] عبس أي: قطب جبينه، لماذا؟ {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:٢ - ٣] {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:٥] فالذي استغنى بماله وسلطته وجاهه من هؤلاء الكفار فأنت له تصدى: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:٧] أي: وما يضرك سواء أسلم أم لم يسلم، الجنة عندنا لأهل الإيمان، والنار لأهل الكفر والنفاق، لا تحرص على هداهم: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:٣٧] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:٣ - ٧] ما لك منه شيء، ثم: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} [عبس:٨] أي: الأعمى {وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:٩ - ١٠].

ثم قال: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس:١١] أي: هذا الموقف وهذا العمل الذي عملته يا محمد تذكرةٌ لك، وتذكرة للأمة من بعدك، أَن الناس لا يوزنون ولا يقاسون ولا يفاضل بينهم بموازين الأرض وإنما بموازين السماء: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣] أحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن أم مكتوم وعرف منزلته عند الله، فكان إذا دخل عليه وهو لمفرده يفرش له رداءه ويقول له: (أهلاً ومرحباً بمن عاتبني ربي فيه).

وهذا يبين لك أخلاق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه ليس عنيداً، فلو كان شخصاً آخر لكان أخذها نقطة عليه ويقول: هذا الذي سبب لي المشاكل فينتقم منه، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفرش له الفراش ويقول: (أهلاً بمن عاتبني ربي فيه) فعليك أن تكرم المؤمنين وألا تعز الفاجرين؛ لأنك من أهل القرآن.