[البعث والنشور]
هذه قضية ثانية: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٦] فما دام أن الأولى حصلت وهي أن الموت سنة جارية على الكبير والصغير، فلابد أن تحصل الثانية وهي البعث، إذ لو تخلفت الأولى؛ لجاز أن نقول: تتخلف الثانية، وعندما يأتي الموت لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
عند الموت لا تحاسب ولا تعامل على ضوء منزلتك الاجتماعية، ولا رتبك الوظيفية، ولا أرصدتك المالية، ولا وضعك الرياضي، ولا شهاداتك العلمية، كل هذه نفعتك في الدنيا؛ لكن عند الموت يوجد مؤهلات أخرى إذا جئت بها نلت الكرامة وإذا لم تأت بها ليس لك عند الله قيمة.
ما هي مؤهلاتك في الآخرة؟ التوحيد الخالص الصلاة الخاشعة في جماعة المسلمين الزكاة المدفوعة الصيام الزاكي الحج المبرور بر الوالدين صلة الأرحام الدعوة إلى الله الأمر بالمعروف النهي عن المنكر العيش لهذا الإسلام الدفاع عن هذا الدين الحب في الله البغض في الله هذه مؤهلات تنفعك عند الموت ولو كنت في أقل رتبة، ولو كنت لا تملك ريالاً واحداً، لكن لو عندك أعلى رتبة وأعظم مال ولا تملك هذه المؤهلات فليس لك عند الله قيمة: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:١٠٥] هذه موازين الدنيا، لكن موازين الآخرة تختلف عن موازين الدنيا.
مر رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طمرين -طمرين يعني: ملابس رثة- باليين، وحالة رثة، وهيئة ضعيفة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ما ترون في هذا -يعني: ما رأيكم في هذه الشخصية- قالوا: هذا رجل ضعيف، جدير إذا خطب ألا ينكح، وإذا تكلم ألا يسمع له، وإذا دخل ألا يقام له -يعني: ليس له قيمة في المجتمع- فهز صلى الله عليه وسلم رأسه، ثم مر رجلٌ آخر على حصان -شخصية بارزة- عليه ثيابٌ عظيمة، وفي يده سيفٌ مصلت، يمتطي جواداً عظيماً، قال: وما رأيكم في هذا؟ قالوا: هذا حري إذا خطب أن يزوج - لا أحد يرده- وإذا تكلم أن يسمع له، وإذا دخل أن يقام له، فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفس محمدٍ بيده إن الأول أفضل عند الله من ملئ الأرض من مثل هذا) لماذا؟ لأن الموازين هي موازين ربانية، فعند الموت لا تعامل على ضوء شيء من هذه الماديات، فانتبه لنفسك؛ لأن الله يقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:٩٤] جئت إلى الدنيا واستقبلوك في خرقة، وعشت على ظهر الدنيا حتى تموت، ثم يخرجونك منها في خرقة ثانية، وأنت لما بين الخرقتين.
هل سمعتم أن إنساناً دفن في قبره ومعه دفتر الشيكات؟ أو دفن في قبره وعليه البدلة الرسمية ذات الرتب العالية؟ أو دخل في قبره ومعه أولاده أو أمواله أو أزواجه؟ لا والله ما سمعنا بهذا، بل يخرج الإنسان من الدنيا كما تخرج الشعرة من العجين، ويلف في الكفن، ويفرد في قبره، ويوضع معه العمل، فإن كان قد تعرف على العمل وعمل صالحاً؛ فأنعم به وأكرم، وإن كان غافلاً، ضالاً، تائهاً، يشبع بالشهوات ويلهو في المعاصي والمنكرات، ولا يؤدي الفرائض ولا الواجبات، لا يعرف مسجداً، ولا يقرأ قرآناً، ولا يحني رأسه لدين الله؛ فهذا إذا ضرب رأسه في القبر انتبه مثل النائم السكران، وقد أخبر الله عنه بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:٩٩] لماذا؟ تقول له الملائكة لماذا ترجع؟ قال: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:١٠٠].
فلماذا لا تعمل من الآن؟ ما الذي غرك؟ تؤجل العمل حتى تدخل القبر ثم تقول ردوني أعمل صالحاً؟! كلا.
لن يردوك، لم يعد هناك فرصة، فاعمل الآن قبل غد.
{لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:١٠٠].
قال الله: {كَلَّا} [المؤمنون:١٠٠] وكلا: أداة زجر وردع وتوبيخ: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:١٠٠] هذا المتلاعب، هذا المهمل يريد الشيء على ما يريد، ومثله كمثل طالب في المدرسة أو في الجامعة، أخذ المقررات الدراسية، وعرف الواجبات، ولكنه أهمل ولم يحضر حصةً، ولم يصغ لدرسٍ، ولم يحل واجباً، ولم يحضر المدرسة، وفي آخر العام الدراسي عُلق جدول الامتحان وقال له زملاؤه: بقي معك فرصة الامتحان بعد عشرين يوماً، أو بعد خمسة عشر يوماً، فذاكر واجتهد.
قال: بلا امتحانات بلا تعقيد، دعوني أعيش بلا هم، هذا الامتحان يُعَقدني، ولما جاءت الامتحانات دعاه أبوه وجاء به غصباً ليمتحن، فدخل قاعة الامتحان، ولما قدمت له أوراق الأسئلة نظر إليها، ورأى أنه لا يعرف منها حرفاً واحداً، فقام وقال: أريد رئيس لجنة الامتحان.
فسألوه: ما بك؟ قال: أريد رئيس اللجنة، فلما حضر قال له: يا أستاذ! أرجو منك أن تعطيني خمس دقائق أو عشر دقائق لأخرج خارج القاعة أراجع هذه المواد ثم أعود وأختبر.
ما رأيكم هل يعطونه ذلك؟ لا يعطونه ذلك أبداً، يقولون: اذهب يا دجال، أنت كذاب لعاب، طيلة العام جالس على اللعب وبعد ذلك تريد أن تنجح مثل هؤلاء المجتهدين؟ لا.
فليس معك إلا الذي معك، فالذي في رأسك اكتبه، إن كان صواباً تنجح، وإن كان خطأ تسقط وترسب.
أيها الأحبة: هذه امتحانات الدنيا، وكذلك امتحانات الآخرة فذاكر من الآن، لا تهمل أوامر الله، ليس لديك إلا فرصة واحدة، وليس لديك إلا دور واحد، جنةٌ أو نار، لا يوجد بعدها فرصة أخرى، أما الدنيا إذا سقطت في الدور الأول تنجح في الدور الثاني، وإذا لم تنجح هذه السنة تنجح في السنة الثانية، وإذا لم تدرس أصلاً تعيش ولو بغير وظيفة أو بغير دراسة، لكن ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار، ومؤهلات الجنة هي الأعمال الصالحة، تنفعك في الدنيا، وتنفعك عند القبر وعلى الصراط، وتنفعك بين يدي الله عز وجل.
أما من يرفض الدين ويستمر سادراً في غيه، عبداً لشهواته؛ فهذا ما سنبين جزاءه في الخطبة الثانية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.