الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الصبر يعتبر من أشرف مقامات السائرين إلى الله عز وجل، ومن أعظم منازلهم، وقد أخبر تبارك وتعالى أن كل عامل يوفى حقه يوم القيامة وفق عمله إلا الصابرين، قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر:١٠] وهل هناك أعظم من أن تعطى أجرك بغير قيد ولا شرط، يعني: أن تعطى حتى تكتفي، وتسعد.
لكن بالحساب والعدل يمكن ألا تكتفي، أو يمكن ألا تبلغ الدرجة التي تضمن لك الفوز العظيم، ولكن بالصبر تعطى أجراً بغير حساب.
وبعض الناس لا يفهم من الصبر إلا المفهوم الجزئي المتعلق بأنه الصبر على البلاء، بمعنى: أنه لو مرض شخصٌ أو حلت به مصيبة وصبر عليها فهو الصابر، هذا جزء من الصبر، ولكنه جزءٌ بسيط من المفاهيم الكبيرة للصبر؛ لأن الصبر يتعلق بثلاثة أمور تقسم وفقها، وكل قسم له ثلاثة أقسام، بمعنى: أن المجموع يصبح تسعة أنواع: فمن حيث تعلق الصبر بذات الصبر ينقسم إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرتها في الندوة الماضية، وهي: التصبر، والصبر، والاصطبار.
ومن حيث تعلق الصبر بالموضوع الممارس عليه، فالصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهو: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة، وهذا هو المفهوم الذي يظن الناس أن الصبر يقتصر عليه، فهذه ستة أنواع للصبر.
والتعلق الثالث يتعلق بما يريده الإنسان المؤمن بالصبر، أي: ما هي نيتك من الصبر؟ قالوا: وهو أيضاً ثلاثة أقسام: صبرٌ لله، وصبر بالله، وصبر عن الله؛ وهو أسوأ أنواع الصبر -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- فالصبر الذي لله يقول فيه ابن القيم رحمه الله: هو صبرك عن معصية الله.
فأنت تصبر لله.
والصبر الذي هو بالله: صبرك للطاعة، فأنت تعبده بقوة منه وباستعانة وتأييدٍ وتوفيق منه تبارك وتعالى.
والصبر الذي هو أسوأ أنواعه: وهو الصبر عن الله، وهو صبر الكافر والفاجر؛ لأنه يريد أن يصبر عن ربه؛ فيورد على نفسه من الأشياء التي تصرفه عن أن يذكر الله أو أن يستجيب لأمر الله بالملهيات والمشاغل، ولهذا فهو يحاول أن يصبر، لكن عمَّن يصبر؟ عن ربه وخالقه.
والصبر مدحه الله وأثنى عليه في القرآن العظيم، وبين تبارك وتعالى قيمته وأثنى عليه في أكثر من تسعين موضعاً، فمرةً أمر به تعالى، فقال:((وَاصْبِرْ)) [النحل:١٢٧]، ومرةً أثنى على أهله، ومرةً أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر أهل الصبر، فقال جل وعلا:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:١٥٥]، ومرةً جعله شرطاً في حصول النصر والتأييد والعناية والرعاية من الله، ومرةً أخبر أنه مع أهله فقال عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:١٥٣]، وأثنى به على صفوته من خلقه وهم الأنبياء والرسل.