للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال المتقين في الحشر]

التقوى وصية الله عز وجل للأولين والآخرين، وما من أمة بعث فيهم نبي إلا وتقوى الله عز وجل من أول وصاياه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:١٣١] وهي وصية الله تعالى للناس أجمعين، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:١ - ٢].

يقول الله تعالى: اتقوا هذا اليوم، وضعوا بينكم وبين عذاب الله تعالى في هذا اليوم وقاية؛ لأنكم لن تستطيعوا تحمله، فالمرضعات يذهلن عمن يرضعنهم، والحوامل يضعن حملهن، والأطفال تشيب رءوسهم: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [المزمل:١٧ - ١٨] الملائكة تحضر كلها من السماء {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً} [الفرقان:٢٥] {فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:٣٧] أي: معالم الكون كلها تتغير ونحن واقفون في ذلك اليوم حفاة عراة غرلاً غير مختونين، لا مال ولا أولاد وإنما قلوبنا معلقة، وأبصارنا شاخصة، وننتظر ما يأتي، يقول الله عز وجل: {وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:١١١] وقال تعالى: {فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه:١٠٨] وقال تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:٣٣] وقال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:١٨] القلب لا يبقى مكانه ولكن يرتفع إلى الحنجرة فيسدها ولا يستطيع أن يتنفس: {إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٨ - ١٩].

الله عز وجل يوصي الناس ويقول لهم اتقوا ربكم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:٣٣] التكافل والتكاتف والتعاون وبذل الجاه والسلطة أكبر ما يكون بين الولد والوالد، سواء كانت أمه أو أباه؛ لأن الوالد يشمل الأم والأب، والمولود يشمل الذكر والأنثى، والتكافل معناه: أن الوالد يود أن يفدي ولده بدمه، ويود الولد أن يفدي أباه بدمه، لكن يوم القيامة كل واحد يهرب من الآخر، أي: إذا لقي الولد أباه يفر، لماذا? لأنه سيقول له: أعطني، ولا أحد يريد أن يقال له: أعطني.

أنت الآن إذا كنت مغترباً في أرض بعيدة، ومعك خيرات وأموال، ورأيت واحداً من جماعتك، ما إن تراه حتى تفرح به، وتحييه وترحب به وتقول: مرحباً وحياك الله، والغداء عندنا، والعشاء عندنا، لماذا? لأنك تملك مالاً وتستطيع أن تضيفه، لكن إذا لقيته وليس معك نقود، فإنك مباشرة تحاول التخلص منه، لماذا? لأنك لو قلت: تفضل، لأجاب فمن أين تأتي بالغداء والعشاء؟ فيوم القيامة كل واحد يفر من الآخر؛ لأنه لا يوجد إلا حسنات، وقد ورد في الحديث: (إن الأب يأتي ولده يوم القيامة فيقول له: أسألك بحق أبوتي عليك حسنة أثقل بها ميزاني، فيقول: نعم.

يا أبت! لقد والله أحسنت تربيتي وغذيتني وأعطيتني، ولكن أسألك أنا بحق بنوتي لك بأن تكمل الجميل وتعطيني حسنة أثقل بها ميزاني) وكل واحد يريد حسنات من الآخر، فقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٦] لماذا? لأنه: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٧].

فالنداء جاء للناس كافة بتقوى الله، ثم ضيق الله تعالى الدائرة، ونادى أهل الإيمان خاصة بلفظ التقوى، وكثير من الآيات في القرآن، فيها نداء للمؤمنين ودعوتهم بأن يتقوا الله؛ لأن المؤمنين هم خاصة البشر وصفوة الناس؛ ولأنهم آمنوا بالله تعالى، وصدقوا المرسلين، يقول الله تعالى فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:١٨] أي: حاسب نفسك: ماذا صنعت لغد؟ ماذا تعمل لو مت الآن؟ لو جاءك ملك الموت ومت الآن، ماذا عندك من المؤهلات التي تنفعك يوم القيامة؟ كيف صلاتك وعقيدتك وزكاتك؟ وبرك وصلتك لرحمك، وتلاوتك لكتاب ربك وحبك وبغضك؟ وعينك في الحلال؟ وأذنك في الحلال؟ وكل حياتك؟ {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:١٨].