وهناك زعم تاريخي باطل سوف نرده إن شاء الله بالأدلة، وهذا شائع عند كثير من الناس ولا يفهمون القول الحق فيه؛ يزعم بعض المؤرخين أن سبب رجوع المؤمنين من الحبشة كان لوقوع هدنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وبين الإسلام وبين الكفر، وسبب هذه الهدنة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تقرب إلى المشركين بمدح أصنامهم، والاعتراف بمنزلتها، إذ زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المشركين سورة النجم لما نزلت حتى وصل إلى قوله عز وجل:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}[النجم:١٩] اللات: صنم من أصنام قريش، والعزى: شجرة كانت تُعبد من قبل قريش، ومناة الثالثة الأخرى: صنم من أصنام قريش، ألقى الشيطان -تقوَّل الشيطان- في آذان المشركين كلمة اعتراضية فهموا منها أنها من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي كلمة: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهم لترتجى، ففهموا هم أنها من الرسول، وإذا كانت من الرسول فهي مدح للأصنام، وأن شفاعتها ترتجى، وأنها تضر وأنها تنفع، فسجد وسجد كفار مكة عند هذه الآية، فلما بلغهم ذلك وهم في الحبشة ظنوا أن القوم قد أسلموا لهذه القصة المزعومة المكذوبة.
هذه القصة رواها كثر من المؤرخين؛ فقد رواها ابن سعد في الطبقات، والطبري في تاريخه، والبيهقي في الشعب، ولكن لم يروها أحد من أصحاب الكتب الستة المعتبرة: لا البخاري ولا مسلم ولا النسائي ولا أبو داود ولا الترمذي ولا ابن ماجة، ولم يروها أيضاً الإمام أحمد في مسنده ولا غيره من أصحاب الكتب المعتبرة والمعتمدة في النقل، وهي باطلة كما يقرر العلماء، متناً وسندا.
أولاً: من حيث السند: يقول ابن كثير عند هذه الآيات: قد ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم، هذا كلام من؟ كلام ابن كثير، يقول: كل الطرق التي جاءت بها طرق مرسلة، والمرسل ضعيف لا يعتمد عليه ولا ينقل فيه خبر.
والقاضي عياض له مآخذ أخرى على القصة من حيث المتن والسند، يقول: أما المأخذ الأول: فيكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحدٌ من أهل الكتب الصحيحة، ولا رواه ثقة بسند صحيح، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، وإنما أولع به بعض المؤرخين المولعين بكل غريب، والمتلقفين لكل صحيح وسقيم، ومن حكيت عنه هذه المقالة لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية.
هذا من حيث السند.
ثانياً: أما من حيث المتن: فإن هذه القصة مردودة بالقرآن الكريم، يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}[الحجر:٤٢] وقد أبعد الله عز وجل وضمن بهذه الآية الغواية عن عباده المرسلين بوحي الشيطان، وقد أقر رئيس الشياطين -وهو إبليس- بأنه ليس له سلطان على عباد الله المخلصين، فإذا لم يكن له سلطان على عباد الله فمن باب أولى أن لا يكون له سلطان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يمكن أن يتقمص الشيطان شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يوحي عنه بمثل هذا الكذب؟ لا.
غير صحيح، فليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وأي الناس أصدق إيماناً وأعظم توكلاً عليه من الأنبياء ومن أخصهم محمد صلى الله عليه وسلم؟! حسناً لماذا سجد المشركون لما قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآيات عليهم؟ هنا العلة، هم بالفعل سجدوا، المشركون سجدوا عندما نزلت هذه السورة، والسبب كما يقوله المفسرون: ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم في جماعة من المسلمين والمشركين في الحرم، وخواتيم هذه السورة فيها قوارع تطير منها القلوب، فلما أخذ صوت الرسول صلى الله عليه وسلم يهدر بها ويزبد ويرعد بنذيرها، وصل إلى قول الله عز وجل:{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى * أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا}[النجم:٥٣ - ٦٢] كانت روعة الآيات وعظمة القرآن قد صدعت قلوبهم، فما تمالكوا أمام قوة البيان وقوة التلاوة إلا أن خروا ساجدين مع غيرهم من المسلمين، حتى إن الوليد بن المغيرة وكان كبير السن لا يستطيع أن يسجد، أخذ حفنة من البطحاء وسجد عليها وهي بيده، فلما أفاقوا بعدما رأوا الناس ساجدين وجدوا أنفسهم ساجدين مع المؤمنين الذين سجدوا لله، وأما هم فسجدوا من باب التأثر البالغ بالقرآن الكريم، فلما رفعوا رءوسهم أحسوا أنهم قد أخطئوا، وأنهم قد أقروا الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، فندموا على ما كان منهم، فأحبوا أن يعتذروا عن غلطهم، وقالوا: ما سجدنا لإله محمد إلا لأنه أثنى على آلهتنا وقد عرفتم القصة؟ يقولون: نحن ما سجدنا إلا لأن محمداً ذكر آلهتنا بخير؛ فنحن سجدنا له من باب المجاملة مثلما قالوا: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة، فأنزل الله عز وجل:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:١ - ٥].
كانت هذه -أيها الإخوة- هي الأسباب الحقيقية لعودة الصحابة من الهجرة الأولى إلى مكة المكرمة، وهذا هو التفسير الصحيح للحدث الذي مر بـ مكة المكرمة وهو سجود المشركين مع المؤمنين عند نزول هذه السورة، وعند قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآيات.
وهنا -أيها الإخوة- تنتهي أحداث هذا المشهد وهو الهجرة الأولى إلى الحبشة.