للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دخول الجنة برحمته تعالى]

أيضاً: من مظاهر رحمته: أنه لا أحد لا يدخل الجنة بعمله، وهذا يبين لنا عظمة الجنة، وأنها لا توازي العمل، قال عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).

إذاً: كيف عبادتنا قياساً على عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! أنا أعطيكم نماذج ونتفاً من عبادة النبي صلى الله عليه وسلم: أولاً: من عبادته: - في الصوم: كان يصوم ويواصل، أتدرون ما معنى الوصال؟ الوصال أنه يصوم من الصباح -أي: يتسحر ويصوم- ويأتي المغرب فلا يفطر، ويأتي السحور فلا يتسحر، ويواصل اليوم الثاني، ويأتي المغرب فلا يفطر، ويأتي اليوم الثاني فلا يتسحر، وكان يواصل اليوم واليومين والثلاثة والأكثر من ذلك، ولهذا قال له الصحابة: يا رسول الله! أنت تواصل، ألسنا مثلك؟ لا بد أن نواصل، قال: (إنكم لستم مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) والحديث في البخاري، قال ابن حجر وهو يعلق على هذا الحديث: كيف يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مواصلاً وهو يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه، لو أنه يُطْعَم ويُسْقََى من طعام الدنيا ما كان هذا وصالاً؛ لكن ليس من طعام الدنيا؛ يطعمه ويسقيه بما يفضي على قلبه من شآبيب رحمته، فيعوضه هذا عن الطعام والشراب في الدنيا، لا إله إلا الله! هذا في صيامه من منا يصوم هذا الصيام؟! - قيامه صلى الله عليه وسلم: وقيامه صلى الله عليه وسلم توضحه الأحاديث:- تقول عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تفطرت أقدامه) رجلاه من كثرة الوقوف تشققت، ونحن تشققت أقدامنا من اللهث وراء الدنيا! أقدامنا مُشَقَّقَة من الدنيا؛ لا من الطاعة.

ثانياً: الجهاد: حياته كلها منذ أن بُعث إلى أن مات جهاد، صلوات ربي وسلامه عليه.

ثالثاً: شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي مضرب المثل: يقول علي، وهو من الشجعان، يقول: [كنا إذا حَمي الوطيس، واحمرَّت الحُدُق ندلق بظهر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يُرى أقرب منه للعدو].

وفي غزوة حنين لما انكشف ظهر المسلمين، وقف يرتجز على البغلة الشهباء، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) يقول: انظروني، موجود، تعالوا، وما ثبت إلا هو، ومعه مائة من أهل الشجرة، حتى أنزل الله جنوداً قلبوا كفة الميزان لصالح المؤمنين.

رابعاً: كرمه صلى الله عليه وسلم وبذله وعطاؤه: ما كان أجود منه صلى الله عليه وسلم في الأرض، كان أجود من الريح، وكان يعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر.

جاءه رجلٌ أعرابي يكفيه أنه يعطيه شاة أو نحوها، فأعطاه غنماً بين الجبلين جاءت من الفيء، وادٍ مليء قال: خذ، هذه لك، فرجع الرجل إلى قومه، قال: أسلموا، والله هذا رجل يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر؛ فجاءت القبيلة كلها تسلم.

اللهم صل وسلِّم عليه.

ادخر له بلال تمراً قليلاً حتى إذا جاع الرسول أعطاه له، فسأله يوماً: (أعندك شيء؟ قال: لا يا رسول الله! إلا تمرات ادَّخرتُها لك، قال: هاتها يا بلال، أنفق ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً) هذا رسول، لو أنه ليس رسولاً والله ما يفعل هذا؛ لكن هذا نبي، اللهم صل وسلِّم عليه.

وفي حديث عقبة بن نافع في صحيح البخاري يقول: (صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فانفتل من الصلاة، فقام من ساعة أن انفتل -دخل حجرته- ثم رجع، فقلنا: يا رسول الله ما لك؟! قال: ذكرتُ في صلاتي شيئاً من تِبْر -يعني: ذهباً- عندي، كرهت أن أقعد حتى أنفقه، فقسَّمتُه ورجعت إليكم) هذا رسول، اللهم صل وسلِّم وبارك عليه.

خامساً: حلمه: دائماًَ الذي عنده عَظَمَه يكون عنده حلم عظيم، وعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم تتجلَّى في كل جزئية من جزئيات حياته.

حلمه: يأتي الأعرابي ويجذبه جذبة عنيفة، أثرت في عاتقه الشريف، والصحابة وقوف والسيوف في أيديهم -ما كانوا يقدرون على رفع أبصارهم إليه، وهذا الأعرابي يأتي ويشده ويقول: أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مالك ولا من مال أبيك، فالصحابة كل واحد منهم بيده سيفه يريد أن يأخذ به رأسَه؛ قال لهم: دعوه، دعوه، وجاء بالعطية وأعطاه، قال: صدق، ليس مالي، هو مال الله، وتركه يذهب، اللهم صل وسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إنه رحمة صلوات الله وسلامه عليه: ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، حتى في المعارك، ففي غزوة بدر لما انتهت المعركة، وجيء بالأسرى -أسرى المشركين- استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في هؤلاء، ماذا يصنع فيهم؟ قال أبو بكر: يا رسول الله! أبناؤك وإخوانك وأبناء عمك، اعفُ عنهم، قال عمر: لا يا رسول الله! أعداؤك وأعداء كتابك وأعداء دينك، أخرجوك وحاربوك، اقتلهم، فماذا صنع صلى الله عليه وسلم؟ مال إلى الرأي الأول رأي الرحمة وعفا عنهم، ثم جاء القرآن من السماء يصحح رأي عمر، ويقول: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:٦٧] فقال صلى الله عليه وسلم: (لو نزلت نار من السماء لأحرقت أهل الوادي، ولما نجا منها إلا عمر) لكن رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم عظيمة.

ولما نزل من الطائف، وقال له ملك الجبال: (أأطبق عليهم الأخشبان؟ -لو كان واحد منا لقال: هؤلاء ما فيهم خير، يا رب دمِّرهم- فقال صلى الله عليه وسلم: لا.

إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون!).

ولما ذهب الطفيل بن عمرو إلى بلاد زهران، ودعا قومه طردوه، وسبوه، وشرَّدوه، فإذا به يرجع، فقال: (يا رسول الله! هلك الدَّوس، قال: ما أهلكها؟ قال: أدعوهم إلى الله فيكذبونك، ادعُ عليهم، قال: ارفع يديك، فرفع الطفيل يديه، والرسول رفع يديه، يريد أن يدعو، قال: اللهم اهدِ دَوساً، وائت بهم جميعاً، قال: يا رسول الله! ما دعوتَ عليهم، قال: اذهب وانظر)، وعندما ذهب إذا به يجد دَوساً كلها قد أسلمت، وجاءت سبعون بيتاً من دَوس، ولا يزال لقبيلة زهران وقبيلة دَوس الفضل بدعوة الرسول إلى يومنا هذا، هاهي كتب التاريخ والسير والمسانيد والأحاديث تبين لنا أن من هذه القبيلة مشاهير الصحابة، يكفيهم أنَّ منهم: عبد الرحمن بن صخر الدوسي (أبو هريرة) رضي الله عنه، الذي روى أكثر من خمسة آلاف حديث، فالدين أغلبه جاءنا من طريق أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧].

وما يبلغ أحد فعل النبي صلى الله عليه وسلم وعمله ومع هذا العمل كله لا يؤهله لدخول الجنة، ولهذا الصحابة استغربوا، (قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) فإذا كان الرسول لا يدخل الجنة بعمله، فهل أدخل أنا وإياك بعملنا؟! ما هو عملنا يا إخواني؟! ماذا نعمل؟! والله لو عُرض على زبَّال لرفضه، فصلاتنا نصفها وساوس وأفكار، وكذلك صيامنا! وصدقاتنا الله المستعان! نشكو أمرنا إلى الله؛ لكن نسأل الله أن يدخلنا في واسع رحمته.

اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، ربنا لا تؤآخذنا بما فعلنا، ولا بما فعل السفهاء منا، ربنا أدخلنا في رحمتك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.