للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الكذب بحجة الضرورة]

وبعد أن تكلمنا في الأسبوع الماضي عن الكذب وعاقبته، وأنه دمار وخسارة ووبال في الدنيا والآخرة، وأنه مادة الكفر والنفاق، فإن الكفر والنفاق بناء أساسه وأركانه وأعمدته وقواعده الكذب، وأي شيء يُبنى على الكذب هل تكون له خاتمة؟! لا والله، بعدها قُدِّمت أسئلة كثيرة، واتصل بي بعض الإخوة بعدما خرجت من المسجد يسألون قائلين: ما حكم من يلجأ إلى الكذب اضطراراً -أي: أنه لا يريد أن يكذب عن اختيار؛ لكنه مضطر- لأنه لو صدق لتعرض للضرر، ولعرَّض نفسه لشيء من العنت والحرج والمشقة، فما الحكم؟ نقول له: إن الصدق مطلوب، والكذب غير وارد أبداً، حتى ولو كان الصدق يعرضك لشيء من الأذى والمشقة؛ لأنك في هذا الموقف الذي تريد أن تصدق فيه أو تكذب وقعت بين فَكَّي (كمَّاشة)، بين عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، أنت إن كذبت سلمت من سخط الدنيا، أو ضيق الدنيا، أو مؤاخذة الدنيا، كأن تكذب على الأستاذ لكي تسلم من العصا، أو تكذب على أبيك كي تسلم من المؤاخذة، أو تكذب على زوجتك حتى تسلم من اللّوم، أو تكذب على جارك، أو تكذب على قريبك، وتقول في نفسك -مثلاً-: لو قلتُ له الصدق ربما يغضب عليَّ، فأنا أداري خاطره؛ لكي لا يغضب عليَّ، فكذبتَ هنا؛ لكن رتَّبت بكذبتك هذه عليك عقوبة من عقوبات الآخرة، تنتظرك، ولو أنك صدقت في الدنيا لرتَّبت على نفسك عقوبة من عقوبات الدنيا، تنتهي منك، فأنت وازن وقارن بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، تجد أنه لا نِسْبة ولا تناسب، إذا كانت عقوبة الدنيا واحدة، فعقوبة الآخرة ملايين، دعهم يغضبوا، ماذا هناك؟! اصدق عند المرأة، ودعها تغضب؛ لأنك لو كذبتَ فليتَها ترضى، اصدق عند الجار، واصدق عند المدير، وبعد ذلك إذا صدقت باستمرار أرحتَ نفسك؛ لأن الصدق عُملة واحدة لها وجه واحد فقط، ليس عندك إلا الصدق؛ لكن الكذب فيه تلوُّن، ولهذا يقول الحكماء: إذا كنتَ كَذوباً فكن ذَكوراً.

أي: اجعل ذاكرتك قوية لكي لا تقول كذبة الآن، وتأتي غداً تنقضها، وكم جهدك تتذكر كل ساعة، ودائماً الذي يكذب ينسى.

وأذكر مرة من المرات، وأنا مسئول، جاءني أحد العاملين يطلب مني إجازة اضطرارية لمدة ثلاثة أيام، فقلتُ له: لِمَ؟ ماذا عندك من شُغل؟! فطبعاً لا بد أن أقتنع بالعذر حتى أعطيه الإجازة، فقال: عندي أختي مريضة، ومنوَّمة في المستشفى، وهو ليس لديه أخت، ولا معه مريضة، وإنما معه عمل آخر، قلتُ: لا مانع، فوقعت له على الإجازة، وذهب، وبعد فترة، أظنها حوالي بعد شهر، ونحن جالسون، وهو يصب الشاي، فكأنه أتى بقطعة خبز من حب جيد، فقلت له: والله هذا الحَب جيد، يا أخي! فقال: تريد أن أعطيك من هذا الحب؟ قلت: من أين؟ قال: معي في المنزل أتيت به من المزرعة، فقلتُ: متى؟ قال: يوم أخذت تلك الإجازة، فقلت له: أنت أخذت ثلاثة أيام؛ لأن أختك مريضة، أم لكي تسوِّي الزرع والجرجير، قال: الله أكبر على الكذب! فقلت له: كفى، عرفتُ الآن أنك كذاب.

فكم تساوي هذه الكذبة؟! فلو أنه جاءني ذاك اليوم وقال لي: عندي (عَرْنة) في الزرع، وأريد أن (أدوسها)، وما عندي فرصة، فأنا أخرج من الدوام بعد العصر، فهل سأقول له: لا؟! بل أقول: نعم.

لا مانع؛ لكن وضَعَها كذبة، ونسيها؛ لأنها ليست صدقاً.

فالصدق هو الذي لا ينساه الإنسان، أما الكذب فينساه الإنسان.

فيقول الحكماء: إذا كنتَ كَذوباً فكن ذَكوراً.

أي: شغِّل (مخَّك) إلكترونياً، بحيث لا تنسى أبداً.

ومرة من المرات، وكنا في الدوام، افتقدت أحد العمال، وما وجدتُه، وكان يوم ثلاثاء -وتعرفون أن يوم الثلاثاء أكثر الناس يخرجون دون إذن؛ لكي يتقضون من السوق- فبحثنا، أين فلان؟ أين فلان؟ فأجاب رجل آخر وقال: غير موجود، فجلست أبحث عنه حتى جاء بعد صلاة الظهر، فقلت له: أين أنت يا أخي؟! فقال: بل أين أنت؟ أنا بحثت عنك وما وجدتُك، فقلت له: أنا موجود وما خرجت، قال: جئتك إلى مكتبك وما وجدتُك، فظننتُك ذهبتَ هكذا أو هكذا، قلتُ: ماذا هناك؟ قال: جاءني اتصال هاتفي أن أختي توفيت في المستشفى -وهذا غير الأول وطبعاً يعرفون أننا لا نعرف أهاليهم؛ لأنهم من بلاد بعيدة- فقلت: توفيت؟ قال: نعم.

توفيت، واستلمنا الجثة، ونتصل الآن على الجماعة، لكي يأتوا بعد العصر، ثم ظهر من بعد أن الرجل لديه ثلاثة رءوس من الغنم، ويريد بيعها في سوق الثلاثاء، وما لديه فرصة إلا اليوم، وما استطاع أن يعتذر، فجاء بهذه الكذبة، فقلت: جزاك الله خيراً، وأحسن الله عزاءكم، ما اسم الأخت الكريمة المتوفاة؟ قال: فلانة، قلت: تعال نسجلها، وفي أي قسم؟ قال: في قسم النساء، -فهنا يتضح أن الكذب لا يمكن أن يستمر- قال: قسم النساء، قلت: خيراً، ثم استدعيت أحد الموظفين وقلت له: اكتب كتاباً إلى إدارة المستشفى، واطلب منهم معلومات كافية عن المتوفاة فلانة بنت فلان؛ نظراً لأن أخاها يعمل عندنا، ونريد أن نمنحه إجازة من أجل العزاء، قال العامل: اكتب اكتب -أي: يريد أن يتحداني- قلت للموظف: اكتب، واذهب أنت، فذهب العامل، وإذا بالموظف يكتب فعلاً، والعامل قلق، يتتبع الخبر، هل سيكتب حقيقة أم مجرد تخويف؟ أخيراً: كُتب الكتاب، وجيء به إليَّ من أجل التوقيع، وعندما أردت التوقيع إذا بالعامل يدخل عليَّ، ويقول: حذار، الكذب ليس بجيد، أنا أتيت لكم بهذا العذر، أريد أن تعذرني فتورطني وتكتب للصحيَّة، وليس هناك من أحد، والله ما ماتت أختي، ولا معي أخت، فقلت: إذاً لماذا تكذب عليَّ؟! هل أنا مغفل؟! قال: لا.

قلت: فماذا؟ قال: استحييتُ منك، قلت: سبحان الله! والله ما استحييت مني، لو أنك استحييت مني لصدقت معي؛ لكنك ظننتَ أنني (كرتون) جالس على الكرسي، وأن كذبتك ستنطلي عليَّ، أتدري؟ والله لأضاعِّفنَّ عليك العقوبة، فالعقوبة عندنا: (٥٠%)، ثم: يوم على الكذب، والإدلاء بمعلومات غير صحيحة، فأصُكُّه بيومين، قال: كفى تبت ولن أكذب إلى يوم القيامة.

فالشاهد في الموضوع -أيها الإخوة- أنه لا يوجد داعٍ للكذب، ونحن نقول هذا -أيها الإخوة- ونؤكد عليه باستمرار: لا يوجد داعٍ للكذب، لكن أكثر الناس يكذبون من غير داعٍ ولا ضرورة، فكيف تكذب؟! لا.

بل كن صادقاً في كل شيء، في كل تصرفاتك، وعوِّد أولادك على الصدق، واجعل لهم ثواباً، فلو دخلت المنزل ووجدتَ -مثلاً- (راديو) مكسوراً، أو (ثلاجة) مخلوعة، ثم جاء ولدك وقال: أنا فعلت ذلك يا أبي، فقل له: لا يهمك -إن شاء الله- لن تكررها، ولو أنك كذبتَ ثم اكتشفتُ بعد ذلك لعاقبتُك عقوبة مضاعفة؛ لكن ما دمتَ صادقاً فأنا أشكر فيك هذه الشجاعة الأدبية، وأشكر فيك هذا الصدق والوفاء، سامحك الله، فبهذه الطريقة! يحب الولد الصدق إلى يوم القيامة؛ لأن الصدق نجاة.