[حقيقة النفس ووقايتها من الأمراض]
إن النفس بمنزلة المستشار فهي التي تقدم الاستشارات للقلب، ومقاييس هذه النفس الاستشارية هي الشهوات، والملذات، والمتع، والراحة، والسهرة، والرحلات، هذه الأشياء النفس تحبها، إذا شاورت نفسك: نسهر؟ قالت نعم لا يهم، إذا شاورتها نأكل؟ وقالت: كل يا رجل، ننام؟ نم.
كل شهوة محببة تحبها النفس، بل كل أمر سيئ تحبه النفس وتأمر به، يقول الله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:٥٣] بالسوء أي: بالشر، هذه طبيعة النفس، لكن يأتي دورك لهذه الطبيعة النفسية، أن تقوم بتغييرها وبمجاهدتها إذا كانت أمّارة بالسوء، تريد أن تنام تقول لها: لا.
انهضي وصلي، تريد أن تغني، تقول: لا والله لا تسمعين الأغاني، تريد أن تنظر إلى الحرام تقول: لا.
وتغض بصرك، تريد الربا من أجل أن تصبح غنياً، تقول: لا.
هذا حرام لا يمكن، وكلما أمرتك هذه النفس بلذة محرمة أو بشهوة ممنوعة قلت لها: لا.
تفطمها، فإذا رأت أنك سيطرت عليها ترقت، وانتقلت من مرتبة النفس الأمارة بالسوء إلى مرتبة النفس اللوامة: وهي التي تفعل الخير ولكنها تحن إلى الشر، ثم تلوم على فعله.
أنت تفعل الخير بنفسك الطيبة، لكن أحياناً توقعك نفسك هذه في شر، فإذا عملته قالت النفس: لماذا تعمله، ما بك أنت ملتزم، أنت متدين، أنت مؤمن، لماذا تنظر إلى الحرام؟ لماذا تستمع إلى الأغاني؟ هذه نفس لوامة، فإذا لامتك وهي التي ورطتك قلت أنت: أنتِ التي أوقعتيني، والله لا أفعلها، فإذا جاهدتها مرة، ومرتين، وثلاثاً، وأربعاً، وعشراً، ارتقت إلى مرتبة النفس المطمئنة، التي اطمأنت إلى دين الله وسكنت إلى أمره، واستراحت بتنفيذ شرعه، وهنا تعيش أكمل عيشة، ولا يجد لك رب العالمين حينها مجال إلا أن ينقلك إلى الجنة، ويناديك عند الموت ويقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:٢٧ - ٣٠] ولذا يقول العلماء: إن مجال الإصلاح في حياتك هو إصلاح نفسك، قال الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:٧ - ٩] ويقول عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:٤٠ - ٤١].
ودائماً النفس -بحكم طبيعتها الشريرة- ورغبتها في الخمول، وكراهيتها للقيود، تحب الانفلات، وتحب الدعة، وتحب عدم الإلزام بشيء، ولذلك ترى أنك إذا كنت طالباً في ليالي الامتحان، تنظر إلى الكتاب المقرر الذي فيه الاختبار غداً، تراه أكره شيء، كأنه حيات وعقارب أمامك، ولكن أي صحيفة أو مجلة أو كتاب آخر تريد أن تقرأه كله، لماذا؟ لأن النفس مكرهة على ذاك، وغير مطلوب منها هذا، فتميل إلى هذا وتكره ذاك، لكن ماذا تفعل أنت؟ إذا كنت عاقلاً وحازماً ولبيباً وذكياً، تقول: لا يا نفس، ليس عندنا اختبار في الصحيفة ولا في هذا الكتاب هذا، والله لا بد أن تقرأي الكتاب المقرر عليك غصباً عنك، فتستسلم لك، ولهذا فالنفس هذه يقول العلماء عنها: إنها مثل الدابة، إن وجدت خيالاً ماهراً، ركب عليها، وشد زمامها، وتركها تمشي ولم يجعلها تبرك، وإن لقيت خيالاً ضعيفاً، رمته وركبت عليه، ورفسته ومشت عليه، وكذلك أنت إن كنت مسيطراً على نفسك، تقهرها وتزجرها عن المعصية، وتجبرها على الطاعة، استسلمت وأذعنت، وهذا شأن السلف رحمهم الله، كانوا يجاهدون أنفسهم جهاداً عنيفاً، كان بعض السلف إذا فاته ورده من الليل، أخذ السوط وأخذ يضرب أرجله، وقال: والله إنك لأولى بالضرب من دابتي، ماذا يفعل هذا في الليلة الثانية هل ينام؟ يقوم، لماذا؟ لأن أرجله خائفة من العصا.
وآخر خرج يوماً من الأيام من بيته، فرأى بيتاً مرتفعاً فقال: لمن هذا البيت؟ قالوا: لفلان، ويوم أن رجع في الليل يريد أن ينام، قام يراجع ويحاسب نفسه على الأقوال التي قالها، فوجد هذه الكلمة فقال: أنت خرجت بعد الظهر اليوم، ورأيت عمارة وقلت: لمن هذه العمارة، قال: يا نفس ماذا تريدين بهذه الكلمة؟ تريدين عمارة مثلها، لا تريدين أن تشتغلي بطاعة الله، تريدين أن تشتغلي بما عند الناس، يقوم فيلومها، ثم قال: والله لأعاقبنك بصيام سنة، فصام سنة من أجل كلمة، هل ستعود نفسه توسوس له، حسناً هؤلاء عرفوا كيف يعالجون أنفسهم، جاهدوها مجاهدة صحيحة حتى أذعنت واستسلمت وسارت في ركاب الطاعة، واستسلمت لأمر الله تبارك وتعالى.
إذاً دورنا -أيها الإخوة- جهاد هذه النفس وعلاجها، وقصرها على الطاعة، وزجرها عن المعصية.
هذه النفس لها أساليب ووسائل في عملية تحسين الشر والمعاصي، مثلاً: الزنا تأتي النفس فلا تبديه لك بالصورة الطبيعية، ما هو الزنا؟ الزنا عار الزنا شنار الزنا إسقاط للاعتبار الزنا فصل من الوظيفة الزنا جلد في السوق كما يجلد الحمار الزنا -إن كنت محصناً وسبق لك الزواج- رجمٌ بالحجارة حتى تموت الزنا إدخال لك في قائمة السوابق الزنا إفساد لعرض مسلم الزنا إيجاد لولد غير شرعي يعيش بدون أب، ويبقى عالة على المجتمع من أجل شهوة تقضى في دقيقة أو دقيقتين أو خمس دقائق، هذا هو الزنا.
إذا بدا لك الزنا بهذه الصورة هل تقبله؟ لا.
لكن النفس الأمارة بالسوء لا تظهر الزنا بهذه الصورة، كل هذا تخفيه، وتقول: الزنا لذة الزنا متعة الزنا فرصة أنت دائماً مع امرأتك، لا.
بدِّل غيرها كل طعام له لون وكل طعام له طعم، هذه حقيقة النفس، فإذا جاء العقل يقول لها: لا يا نفس! أنت مخطئة، الزنا كذا وكذا، تقول: صدقت، لكن هذا إذا اكتشفت، لكن يا رجل دبر نفسك، اعمله ولن يراك أحد، قال لها العقل: إذا لم يرني الناس الله يراني، قالت النفس: يا ابن الحلال! الله غفور رحيم، من أجل أن توقعك في هذه الجريمة، هذه أساليب النفس؛ لأنها أمارة بالسوء، لكن أنت خالفها وخالف النفس والشيطان واعصهما؛ لأن في معصية الشيطان والنفس، سعادتك في الدنيا والآخرة.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
هل رأيتم طفلاً صغيراً ينفطم على ثدي أمه هكذا من نفسه؟ لا.
لو تركته يرضع لظل يرضع حتى وهو كبير، لكن افطمه بالقوة، ضع في فمه قليل صبغ أو قطراناً وعندما يأتي ويذوقه فإذا به مر، فيبكي يوماً أو يومين أو ثلاثة وانتهى، هكذا النفس، نفسك تحب الأغاني افطمها تنفطم، نفسك تحب النظر إلى الحرام افطمها تنفطم، لكن تظل ترضعها كل يوم فكيف تنفطم، لا بد -أيها الإخوة- من أخذ المسألة بجدية وبحزم وبقوة حتى تنفطم هذه النفس، على ترك الذنوب والمعاصي والآثام.