قال كعب: فلما بلغني أنه قفل راجعاً من تبوك -جاءت الأزمة الشديدة الآن، ماذا يقول كعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ - حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غداًَ؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفتُ أني لن أخرج منه أبداً بشيء من الكذب، فأجمعتُ وعزمتُ على صدقه مهما كانت النتائج، وأصبح رسول الله قادماً، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل جاءه المخلفون من الأعراب -المنافقون الذين جاءوا يعتذرون- فطفقوا يقدمون الأعذار، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقَبِل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، فسلموا من سخط الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ماذا حصل؟ نزل قول الله عز وجل فيهم:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}[التوبة:٨٠]، هذه أول المصيبة، فما العمل الآن؟! {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ}[التوبة:٩٤].
يقول:(أما أنا فلما سلمتُ عليه تَبَسَّم تَبَسُّم المُغْضَب -أي: المعاتب- لماذا يا كعب تتخلف عن الجهاد؟ -ثم قال: تعال، فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديه، قال: ما خلَّفك يا كعب؟! ألم تكن قد ابتعت ظهراً؟ -اشتريت لك ظهراً، أي: جملاً- قلتُ: بلى.
ثم قلت: إني والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أني سأخرج من سخطه بعذر -يقول: سألفق له، وهو رجل قدير على الكلام- ولقد أعطيت جدلاً -عندي إمكانية- ولكن والله لقد علمتُ لئن حدثتُك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليَّ في الدنيا أو في الآخرة -يقول: لا أستطيع الكذب- والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفتُ عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك -لا يستطيع رسول الله أن يستغفر له؛ لأنه ليس له عذر، كيف يستغفر له؟! فقال: الحكم فيك لله تبارك وتعالى- قال: فقمتُ وخرجتُ وقام رجال من بني سلمة واتبعوني، وقالوا: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا -لا يوجد لك أي ذنب- ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر به المتخلفون، ولقد كان كافيك استغفار النبي صلى الله عليه وسلم -فلو استغفر لك الرسول فقد انتهى عذرك وقُبِل، وما عليك شيء- يقول: فما زالوا بي يؤنبونني حتى أردتُ أن أرجع فأُكذب نفسي -فيقولون له: ارجع؛ لأنه الآن أصبح في مصيبة، فما دام أنه لم يستغفر له، لم يبقَ إلا سخط الله وعذاب الله-، يقول: هل بقي معي أحدٌ غيري؟ -أي: هل قال هذا الكلام أحدٌ غيري؟ - قالوا: نعم.
رجلان، قلتُ: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فذكروا لي رجلين قد شهدا بدراً -انظروا كيف يكون الزملاء الصالحون، يقول: ذكروا لي اثنين من أهل بدر، صادقين- فقلتُ: والله إنَّ لي فيهما أسوة -أنا معهم، مصيري مصيرهم- فمضيتُ حينما ذكروهما لي).