رابعاً: إرسال الرسل بالبينات
فالعقل ليس كافياً لإقامة الحجة، رغم أنه وسيلة من وسائل إقامة الحجة ومناطاً للتكليف، لكن ما هي الحجة القاطعة التي اقتضتها رحمة الله؟ هي إرسال الرسل ببيانات أو لمصالح: أولاً: أن العبد لا يمكن أن يعرف مراضي الله ومحابه، ولا مساخطه، ولا مكارهه إلا عن طريق الأنبياء، فقد يؤمن الإنسان بالله ويهتدي، لكن لا يعرف ماذا يحب الله حتى يأتيه، وماذا يكره الله حتى ينتهي منه؟ لابد من رسالة، فأرسل الله الرسل؛ لكي يعلموا الناس: هذا حرام وهذا حلال هذا يرضي الله وهذا يسخط الله.
ثانياً: إقامة الحجة حتى لا يأتي من يقول: يا رب أنا لم أعلم، قال الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:١٥] {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:١٦٥] فاقتضت حكمة الله عز وجل إرسال الرسل.
نقف -أيها الإخوة- هنا بعض الوقفات: أولاً: ضخامة المسئولية بالنسبة للرسالة، وقد قام الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه بهذه المسئولية خير قيام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم لما أنزل الله تعالى عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:١ - ٢] كان في هذا تربية وتجهيز وتأهيب لدور الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سوف يباشره بهداية البشرية، وقبلها، قال الله تعالى له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:١] لأنه لما رجع من الغار قال: (دثروني) وقد أوحي إليه بإقرأ، وأرسل بالمدثر، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ} [المدثر:١ - ٢] ليس هناك نوم {فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:٢ - ٧].
من أول لحظة قال الله له: لا بد أن تصبر على هذه الدعوة، ويقول له في السورة التي بعدها: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} وهو يتزمل ويتدفأ في البيت {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل:٢] تهيئة، وإعداد، وتدريب للقيام بالمهمة، وأول عمل: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:٢ - ٤] لماذا؟ قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:٥] ستكلف بمهمة شاقة! ونحن نعرف -أيها الإخوة- مقدار مشقتها من عجزنا بتربية أولادنا، فبعض الناس عنده ولد أو اثنين أو ثلاثة، يقول: أنا والله عجزت عن تربيتهم، هو مكلف بتربية أولاده لكنه عاجز عن تربيتهم، فكيف بمن يكلف بهداية البشرية من أولها إلى آخرها إلى قيام الساعة؟!! هذه المهمة صعبة أم ليست صعبة؟ صعبة، وقد مارسها صلى الله عليه وسلم وقام بها خير قيام، ولقي في سبيلها العناء والمشقة، ولما قال له ورقة بن نوفل -ابن عم خديجة -: [إنه الناموس الذي أنزل على موسى ليتني كنت فيها جذعاً، لأنصرنك حين يخرجك قومك] فقال عليه الصلاة والسلام: (أو مخرجي قومي؟!) لم يكن يتصور أن قومه سيخرجوه؛ لأنه كانت له منزلة عظيمة عندهم، كان محبوباً؛ لأنه صادق ونظيف وطاهر وأمين، وفيه كل صفات النبل، وكمالات البشرية: (أو مخرجي هم؟) معقول! ما فوضوه في وضع الحجر الأسود إلا لحبهم له: لما اختلفت القبائل فكل قبيلة تقول: نحن نضعه، حتى تجردت السيوف، فقالوا: نحكم شخصاً، فدخل عليه الصلاة والسلام، قالوا: حكموه، هذا الصادق الأمين! فقال: هاتوا رداء، ووضع الحجر في وسطه، وجعل كل قبيلة ترفع من طرف حتى أوصلوه إلى مكانه، وبعد ذلك أخذه بيديه ووضعه في مكانه الشريف، فالقبائل تحبه، ومكة تعظمه، فهو لا يتصور أن يخرج أو يطرد، قال: (أومخرجي هم؟ قال: نعم.
إنه لم يأتِ أحد بما جئت به إلا عودي).
وهكذا أوذي عليه الصلاة والسلام، فقد صب على ظهره سلى الجزور، وبصق في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وأدمي عقبيه، وشج وجهه وطورد، وحوصر هو وقومه ثلاث سنوات في الشعب حتى أكلوا ورق الشجر، وتقرحت أشداقهم، وصاروا يبذلون كما تبذل الأباعر، طرد من مكة: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠]؛ أخرج من مكة إلى المدينة، وطورد بعدها في المدينة، وحورب من كل فئات الأرض، ومع هذا فحياته كانت جهاداً حتى نصر الله دينه، وبلَّغ رسالة ربه، وأدى أمانة الله لأمته، ووقف في يوم عرفة يقول للناس: (ألا هل بلغت، فقال الناس: اللهم نعم.
فيقول: اللهم فاشهد، وكان يرفع يده إلى السماء ثم ينكتها إلى الأرض ويقول: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) وينزل عليه قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:٣] ثم يموت صلوات الله وسلامه عليه! ويترك هذه التركة، وهذه العهدة والمسئولية للدعوة إلى الله على أمته من بعده إلى يوم أن تقوم القيامة.
كانت الأمم السابقة إذا مات نبيهم أتى نبي بعده إلى أن اختتمت الرسالات برسالة الإسلام وبرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم سمى الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولا دين بعد دينه، ولا نبي بعده، وجعل مسئولية الدعوة من بعده على أمته، فأمته كلهم ورثة لهذه التركة، يقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا} [يوسف:١٠٨] أنا وحدي فقط؟ لا.
{أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨].