أيها الإخوة: لنا فيما ذكر الله في القرآن من الأمم عبرة؛ لأن الله أخبرنا في القرآن بخبر الأمم؛ لنعتبر، فالحمد لله الذي جعل لنا من الناس عبرة ولم يجعلنا للناس عبرة، يذكر الله تبارك وتعالى مثلاً في القرآن عن قوم سبأ في اليمن، يقول الله عز وجل:{لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ}[سبأ:١٥] آية وعبرة لمن يعتبر {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ}[سبأ:١٥].
أقاموا سد مأرب وضربوه بالرصاص، أي: كان اللحام الذي بين الحجارة وبين الأخرى لم يكن طيناً ولا اسمنتاً ولا مسلحاً بل كان رصاصاً، ولما أراد الله تبارك وتعالى أن يدمرهم بهذا السد؛ لأنهم عصوا وخالفوا الأمر، قال:{جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ}[سبأ:١٥] كانت الجنان لما أوقفوا السيل وسدوه ورجع الماء، وأجروا الجداول والأخاديد من الجنب وسقوا به الأرض {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ}[سبأ:١٥] فكانت المرأة تدخل في البستان والمكتل على رأسها، ويداها مسبلتان وتخرج من الطرف الآخر فإذا المكتل قد امتلأ من كل شيء تمد يدها على ثمرة واحدة، جنان دانية، كان الطائر إذا دخل لا يعرف كيف يخرج من تشابك الأغصان {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}[سبأ:١٥] فالأرض طيبة والخيرات متوفرة والرب غفور، فماذا حدث؟! أعرضوا، ولما أعرضوا عذبهم الله، قال:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}[سبأ:١٦] سماه الله سيل العرم؛ لأنه اقتلع كل شيء، سلط الله عليهم أولاً: جندياً من جنوده، من أضعف جنوده وهو الفأر الجرب؛ والجرب لا يأكل إلا الحب ويقضم الملابس، لكنَّ الله سلطه ليأكل الرصاص والحيود، فأكل السد ونخره، ثم أرسل الله الماء ليعذبهم به فكان يصرم السد مثلما يصرم السيف الزرع صرماً، والماء نعمة ولكن لما كان فيه غضب الله صار عذاباً.
كما صار قبل سنوات، من الذي منكم رأى وادي ضلع يوم أن نزل بالوادي ماء وليس ذلك ماء، كان إذا عرض على العمود الكبير وقد رأيت بعض الأعمدة فيه من الأسياخ والسيخ (٣٢) مليمتر، وفيه أكثر من (٢٥ سيخاً)، ولكن الماء يقصه، ماء يقص هذا؟ إن الماء رحمة لكنه فيه عذاب يأخذ الجسر من طرفه إلى أن يضعه على طرف الجبال، هذا لا يمكن أن يكون ماءً لا بد أن يكون فيه عذاب.
فالله لما أرسل عليهم سيل العرم اقتلع هذا السد ودمرهم وحروثهم وزروعهم وبيوتهم وشردهم في الأرض، ثم قال:{وَبَدَّلْنَاهُمْ}[سبأ:١٦] بدل ما كانت النعمة والبساتين والأنهار والآبار والخيرات، فلا يعملون ولا يزرعون ولا يبيعون ولا يشترون وإنما كان عليهم أن يشكروا ويعبدوا ويأكلوا من خيرات الله عز وجل، ولكنهم بدلوا وفجروا وكفروا وفسقوا وعملوا المعاصي فدمر الله عليهم الأرض:{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ}[سبأ:١٦] أعطاهم الله بدل البساتين هذه بستانين لكن ما هي أشجارها؟! قال:{ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}[سبأ:١٦] الخمط: الطلح، والأثل: الأثل الطويل الذي ليس فيه ولا ثمرة، والناس لا يأكلون الطلح ولا الأثل سوف يموتون، وحتى لا يموتوا أعطاهم الله السدر لكنه قليل {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}[سبأ:١٦] لكي يقتاتوا، ولا يموت السدر ففيه النبق، هل تعرفون النبق؟! الثمر الذي كان الناس ينزلونه ويأتون به ويكيلونه مثلما يكيلون الهيل، وكان يؤكل وقد رأيته في السوق قبل سنوات واشتريت منه، وأنا كنت أعرفه أيام الجوع وكان في طعمه لذة ويوم ذهبت للبيت وبدأت آكله وإذا به بلا طعم؛ لأن الجوع هو الذي جعل له طعماً في تلك الأيام، وإلا فهو كالعود، فقد رميناه، قلت لعيالي: كلوا فهذه كانت فاكهتنا قبل زمن، وكانت عبارة عن البرتقال في ذاك الزمان، قالوا: لا نريده، وإذا بهم رموه، كان يأكلونه الأولون لكي يسد جوعهم، تسد شيئاً في بطن الإنسان، قال الله:{وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}[سبأ:١٦ - ١٧].
فنحن والله -يا إخواني- نخاف على هذه النعمة التي نحن فيها، وانظروا إلى مزارعنا يابسة، ليس فيها حتى قطرة ماء ولا زروع ولا شيء، وماذا كان آباؤنا وأجدادنا يعتمدون عليه من قبل؟ على الله ثم على الزرع، لكن هل أحسسنا الآن بجوع حين يبس الزرع؟! لا، ادخل السوق المركزي في كل قرية، حتى على الطرقات ادخل من الطرف تجد كل شيء، تجد اللحوم والأسماك والدجاج والطيور، وتجد الفواكه والمعلبات والحبوب، وجميع ثمار الأرض موجودة وتشتريها كيفما تشاء، والله ينعم عليك ويقول:{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}[سبأ:١٥] لكننا إذا أعرضنا فوالله إن عذاب الله وسنة الله عز وجل واحدة لا تتبدل.
ويضرب الله مثلاً في القرآن فيقول في سورة النحل:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً}[النحل:١١٢] يقول العلماء: إنها كانت آمنة مطمئنة؛ لأنها استجابت لداعي الله وطبقت شريعة الله؛ فأعطاها الله كرامتين: الأمن والاطمئنان، الأمن: هو أمن الأوطان، والاطمئنان: هو اطمئنان القلوب، فقد يكون بعض الناس آمنين، أي: لا يوجد خوف ولا لصوص لكن ليس هناك اطمئنان في النفس، بل يوجد قلق وحيرة واضطراب، فلا ينام الليل ولا يشعر بأنه مرتاح، لماذا؟ لأن هناك أمناً في الوطن والبلد، وهناك قلق في النفس بسبب الذنوب والمعاصي، فالله عز وجل كافأ هؤلاء الرجال لما آمنوا وصدقوا أن رزقهم الأمان والاطمئنان:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}[النحل:١١٢].
مثلما هو عندنا اليوم تجلب لنا الأرزاق وأهلها في حاجتها والله، وما يشبعون منها، كما كنا من قبل كنا ننتج الحب فنأخذ الجيد لنبيعه ونأخذ الغثاء والباقي نأخذه ونأكله وذاك نكنزه لكي نبيعه في السوق، ونشتري بقيمته كسوة لعيالنا، أو أشياء أخرى، فهم يأخذون أحسن ثمارهم ويعلبونها وتأتيك إلى بلدك تأكلها، وهم يأخذون الرديء.