للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أخذ العظة والعبرة من قصة يوسف عليه السلام]

هذا يوسف عليه السلام ابتُلِي واختُبِر بفتنة من فتن الناس في هذا الزمان وهي: فتنة الشهوة، شاب غريب، وطبعاً الغريب ليس مثل المقيم في بلده، دائماً الغريب عندما يقيم في بلده يخشى من الفضيحة ويحرص على السمعة، وعلى ألا يلوِّث عرضَه أو عرض أهله أو قبيلته، لكن الغريب لا يفكر في هذه الأمور، يقول: أنا غريب، ماذا عليَّ؟! لا أحد يعلم أني هنا، لكن بالإيمان وباستشعار عظمة الله يشعر المسلم بأنه تحت النظَّارة، وتحت المراقبة الربانية في كل مكان، وتحت أي سماء، وفوق أي أرض، في الليل والنهار، في الظلام والنور، مع الناس وفي الخلوة، لماذا؟! لأنه يراقب الله تبارك وتعالى.

وإذا خلوت بريبة في ظلمةٍ والنفس داعية إلى الطغيانِ

فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني

هذا يوسف عليه السلام كان شاباً، غريباً، وجميلاً، وأعزباً، وكان يعيش في بيت مُلْك في بيت امرأة العزيز التي دعته وهي ذات منصب، لا أحد يستطيع أن يقول لها أي كلمة، وكانت ذات جمال، ومن الطبيعي ألا يتزوج عزيز مصر إلا أجمل نساء مصر، وأيضاً تراوده يعني: ما عرض هو الموضوع عليها، لا.

بل هي التي تراوده وتطلبه، وبعد ذلك أمَّنَتْه: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف:٢٣] غَلَّقَت، ما قال: أَغْلَقَت، بل قال: غَلَّقَت، هنا صيغة مبالغة، عندما تقول: أنا أَغْلَقْتُ الباب ربما يحتمل أنك أجفيته؛ لكن عندما تقول: أنا غَلَّقْتُ الباب، يعني: أحَكمْتُه بقوة {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} وبعد ذلك دَعَتْه وقالت: {هَيْتَ لَكَ} تقول له: إلى أين أنت ذاهب؟! أين تريد؟! ولكن لما كان مُثَبَّتاً من عند الله ثبَّته الله: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:٢٣] يقول: هذا العمل الخبيث والسلوك المشين ليس لنا، ولا من طبعنا، إنه فعل الساقطين وعُبَّاد الشهوات، الزناة الذين يسقطون من عين الله في الدنيا والآخرة: {مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:٢٣] يقول: لا يمكن، ثم إنها تراوده، وتطارده، وتضاربه.

ويهم أن يضربها، كما يقول علماء التفسير، لأن بعض الإخوة يغلط في قضية تفسير قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:٢٤].

أنا قرأتُ التفسير في هذه الآية، وسمعتُ كلاماً كثيراً، ولكن الذي اطمأن إليه قلبي، والذي يليق بمقام النبوة -لأن يوسف عليه السلام نبي معصوم عصمه الله عز وجل {واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:١٢٤]- أنها هي هَمَّت به بأن يزني بها، والهَمُّ في اللغة هو: العزم على فعل الشيء، بحسب الحالة التي تحيط به وتلابسه، الله يقول في القرآن: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران:١٢٢] {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيكُمْ} [المائدة:١١] ما معنى: {هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا} [المائدة:١١]؟! يعني: هموا أن يزنوا؟! لا.

بل الهم على فعل الشيء يعني: العزم على فعله، فهو هَمَّ بشيء، وهي هَمَّت بشيء، فهَمُّها منطلق من موقفها، وهَمُّه منطلق من موقفه، فهَمُّه منطلق من موقفه الرافض، وهَمُّها منطلق من موقفها الراغب، لو أنه هَمَّ بها فما الذي يمنعه؟ كلمة: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:٢٤] عائدة على هَمِّه هو، يقول المفسرون: إنها هَمَّت به ليزني، وهَمَّ بها ليضربها، ما يمنعها من هذا إلا الضرب، ولكنه قبل أن يضربها رأى برهان ربه، قال المفسرون: قذف الله في قلبه أنه لو ضربها لازدادت الشبهة تأكداً أنه أرادها، إذ أنها اتَّهمته أنه أرادها ولم يضربها، ولكن لو ضربها ضربة وبقي أثرها، لكانت شبهتين: هذا راودني، وضربني، لازدادت شبهة أنه يريدها تأكيداً، فالله عز وجل منعه: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:٢٤] فلم يضربها حتى لا تتأكد الشبهة ضده، إذ أن الله يعلم أنها سوف تتهمه بالزنا.

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:٢٤] ودليل هذا أنها هي في آخر الأمر لما اعترفت قالت:! {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:٥١] لم تقل: فأرادني، تقول: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف:٣٢] فاستعصم، أو فهَمَّ بي وأرادني؟! لا.

بل استعصم، اعترافها في آخر الأمر -كما في التفسير- أنها قالت: اعتصم بالله عز وجل.

فيوسف عليه السلام موقفه الإيماني العظيم الذي لا يقف فيه إلا من وفقه الله.

القضية يا إخواني! في الذهن والتصور والخيال سهلة، يقول الشخص: والله يمكنه أن يثبت، لكن في ميدان الاعتبار لا يثبت إلا من وفقه الله، ولذا كان عملها سبباً من أسباب نجاة أحد الثلاثة الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان قبلنا، والحديث في الصحيحين عند البخاري ومسلم: (أن ثلاثة كانوا في سفر، فآواهم المبيت إلى غار، فوقعت عليهم صخرة سدت عليهم باب الغار حتى لا يستطيعون منها خروجاً) وهذه أزمة ما لها من فارج إلا الله، لا يوجد هاتف يتصلون بالنجدة، ولا بالدفاع المدني، ولا توجد جماعة قريبة يفتحون لهم الغار، ولا عندهم جرافة تأتي فتأخذ الحجر، ولكن من معهم؟ معهم الله الذي لا إله إلا هو، فأحدهم قال: إنه لا يفسح ما بكم إلا الله، فادعوا الله بصالح أعمالكم -تعرفوا إلى الله في الشدة، الآن كما سبق أن تعرفتم إليه في الرخاء يعرفكم في الشدة ادعوا الله- فقام الأول ودعا بدعوة: أنه كان له أبوان، ودعا الثاني أنه كان له أجير، والثالث -الذي نستشهد به في هذا الحديث- أنه كانت له ابنة عم يحبها كأشد ما يحب الرجل المرأة، ثم راودها يوماً من الأيام عن نفسها فرفضت، وراودها فرفضت، وراودها فرفضت، ثم بعد ذلك حصلت عندها حاجة ماسة وفقر مدقع، فلم تجد لها فرصة إلا أن تأتي لتستلف من ابن عمها، فجاءت إليه تستلف منه، وقالت: أعطني مبلغاً من المال قرضة أرده لك، قال: لا -استغل نقطة الضعف ليلبي نزوته ورغبته- قال لها: لا.

أنا لا أعطيك شيئاً، إلا أن تفعلي، واتركيني وأنا سأعمل ما تعلمين، فقالت: له حسناً فوافقت وهي مكرهة، ولا تريد هذا الشيء؛ لأنها مؤمنة وتخاف الله، فلما جلس منها مجلس الرجل من امرأته -لم يعد هناك أحد أبداً يستطيع أن يمنعه إلا الله في تلك اللحظات- قالت له المرأة: اتقِ الله يا هذا! -خَف من الله! راقب الله! اشعر بأن الله يراك! - ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام الرجل -والله هذا عنده من الإيمان مثل الجبال- قام الرجل عنها، ثم قال: اللهم إن كنتَ تعلم أنني إنما تركتها وقمتُ منها من أجلك وخوفاً من عقابك فافرج عنا ما نحن فيه، قال: فتحركت الصخرة؛ فخرجوا يمشون من رحمة الله تبارك وتعالى بهم.

فيوسف عليه السلام في درسه العملي هذا تثبيتٌ لك -أيها المسلم- يا من تواجه مثل هذه المواقف! في هذه الديار أو في غيرها من ديار المسلمين، ربما لا تجد هذا الموقف في هذه الديار، لكن ربما تجد هذا الموقف في بعض بلاد المسلمين أن تعرض عليك امرأة نفسها في حكم الحاجة، أو الرغبة الجنسية، أو أنك شاب، لكن هناك: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧].

في تلك اللحظات تَذَكَّرْ يوسفَ ومواقفَه من امرأة العزيز، وقل: معاذ الله، لماذا تقولها؟! لأنك سبق أن درست في القرآن الكريم قصة يوسف، وانقدحت في نفسك آثار هذه القصة، عصمة على دين الله، وتمسكاً بطاعة الله، وعدم انهزام في معصية الله عز وجل، هذا معنى القصص القرآني الذي يقول الله فيها: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:١٢٠] هذا معنى هذه الآية.