للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الثبات على الدين]

السؤال

أسأل الله أن يجعل لك حظاً أوفر ولي ولجميع المسلمين في الدار الآخرة أنا شاب هداني الله ثم ذهبت إلى الجهاد، ومكثت مدة طويلة وعدت إلى السعودية ورجعت إلى الدنيا وارتكبت معاصي كثيرة والله المستعان! فأرجو الدعاء لي في هذا، وأرجو إرشادي وتوجيهي لعل الله يرحمني.

الجواب

هذه هي المصيبة -أيها الإخوة- والنكسة! هذه مصيبة؛ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور) والنكسة هذه صعبة جداً جداً، وقد ينتكس الإنسان نكسة تدخله النار -والعياذ بالله- {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:٣] وأنت -يا أخي الشاب- يا من هداك الله ثم رفعك إلى أعلى درجات الدين؛ إلى ذروة الجهاد في سبيل الله، ثم ذهبت هناك ليس لأن تتنزه تركت المعاش والفراش والأهل والنوم والأمن وذهبت لتضحي بروحك وتقدم قلبك وقالبك في سبيل الله، هذه نعمة وفضل كبير لا يناله إلا أصحاب النفوس الكبيرة والحظ الأوفر عند الله عز وجل، ثم لما عدت لماذا انتكست؟! لماذا ترجع إلى المعاصي؟! لا إله إلا الله! ما ذقت طعم الإيمان؟! ما عرفت حلاوة الدين؟! أين إيمانك وأنت تقف في الخنادق -هناك- تسمع أزيز الطائرات وانفجار القذائف والقنابل من جانبك وعن يمينك وأنت تتمنى أن واحدة تأتي إليك لتقطعك قطعة قطعة لكي تمسي تلك الليلة في الجنة؟! أحد الإخوة لما رجع من هناك قلت له: كيف وضعكم؟ نحن هنا عندما نسمع الجهاد نشعر بالخوف؟ قال: والله ما هناك خوف، يقول: لما ذهبت هناك والله إنها لتنفجر على بُعد أمتار منا، وإني عندما أراها تنفجر أتمنى أن تأتي فيَّ لكي أمسي في الجنة، يقول: ولا تأتيني، ما هناك خوف، هناك أمن كامل، يقول: كنا نخرج من المعسكر إلى الجبهات كأننا والله نخرج في نزهة، إذا خرجت أنا الآن من هنا إلى القرعة أو إلى السودة وأنا في نزهة أشعر بخوف أن يأتني حادث مروري فأموت، لكن هناك يقول: الطائرات تضرب والقذائف تنفجر ونحن في خنادق الموت ولكن لا يوجد خوف، بل نفرح بالموت! فما دام أن الله ثبتك -يا أخي- وجعلك من عباد الله المجاهدين فلم ترضى بالدنية؟ لماذا ترجع وتتمرغ في القاذورات؟ لماذا ترجع توسخ نفسك بالمعاصي؟ إن المعاصي حجاب بينك وبين الله، ويُخشى عليك -يا أخي- أن يختم على قلبك، فنسأل الله الذي لا إله إلا هو الذي هداك وقواك وأذهبك إلى الجهاد الأفغاني ثم رجعت إلى هنا أن يعيدك إلى ما كنت عليه من الثبات والإيمان والهداية، وأن يثبتك على هذا حتى تلقاه وجميع شباب المسلمين.

أما الوصية التي نرشدك إليها: فعليك أولاً أن تكثر من تلاوة كتاب الله؛ لأنه أعظم مثبت، فلا يوجد مثل القرآن، والله ما من شخص ينتكس إلا بسبب ترك القرآن، فأكثر من تلاوة القرآن بالليل والنهار، واجعل المصحف في جيبك، واتل التلاوة الشرعية التي فيها تدبر، لا تترك فرصة من الفرص إلا وأنت تفتح المصحف؛ لأن الله تعالى يقول: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:٣٢] فالقرآن مثبت.

ثانياً: أكثر من الطاعات الأعمال الصالحة؛ فالأعمال الصالحة كثيرة جداً جداً، منها: قيام الليل، وصيام الإثنين والخميس من كل أسبوع، والحضور إلى مجالس الذكر اجعل أوقاتك كلها مجالس ذكر، لا تترك ندوة ولا تسمع بها في الخميس أو في أبها أو في أي مكان إلا وتشغل سيارتك وتذهب إليها؛ لأنك لا يمكن أن تخرج من مجلس من مجالس العلم إلا بخير، لكن لما تبعدْ تضعفْ وتهزلْ.

ثالثاً: احذر من المعاصي والذنوب، ومن سماع الأغاني؛ لأنها تبدأ الخطوات خطوة خطوة، الشيطان لا يأمرك رأساً أن تعصي الله وتترك الدين، بل يأتيك خطوة خطوة؛ يزين لك، ويخطط للمؤامرة ويقول: اسمع طرف الأغنية، هذه موسيقى اسمعها، فإذا سمعتها قليلاً قليلاً إلى أن تنتكس تماماً ولا حولا ولا قوة إلا بالله! واحذر من سماع أصوات النساء خصوصاً في المكالمات الهاتفية، فإن التليفون الآن يفتن ويسبب إزعاجاً كبيراً للمؤمن، فاقطع الخط بمجرد أن تسمع صوت امرأة، ولا تتكلم معها أبداً إلا إذا كانت ذات محرم لك، حتى ولو كان هدفها طيباً.

وبعض الشباب يقول: إنها تسألني عن أمر ديني.

نقول لك: لا تتكلم ولو كان عن أمرٍ ديني، دع دينها لها ودينك لك، نريد الربح فنعود بربحين ونصبح في مواضيع أخرى! حولها على المشايخ والعلماء كبار السن؛ لأن هناك من العلماء والمشايخ من بلغوا درجة من السن والثبات والقوة في الإيمان بحيث أصبحت هذه الأمور عندهم شيئاً طبيعياً -لم يعد يحصل لهم فتنة؛ لأن الله عز وجل قد جعل لهم نوراً في قلوبهم، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث في صحيح مسلم: (تعرض الذنوب -أي: المعاصي- على القلوب كالحصير عوداً عوداً) وفي رواية: (عَوداً عَوداً) أي: مرة بعد مرة، لكن رواية: (عُوداً عُوداً) أقوى؛ لأنه يوضحها: كالحصير؛ حصير الفراش الذي فيه عيدان (تعرض الذنوب على القلوب كالحصير عوداً عوداً) هذا الحديث -يا إخواني- من أعظم الأحاديث في صحيح مسلم (فأي قلب أشربها -أي: قبلها؛ قبل الذنب ورضي به- نكتت فيه نكتة سوداء) أول ذنب نكتة سوداء، وثاني ذنب نكتة ثانية، وثالث ذنب نكتة ثالثة وهكذا (وأي قلب أنكرها) بمجرد ما عرض عليه ذلك الذنب بنتاً رأيتها فغضضت بصرك وأغنية سمعتها فأغلقتها ودخاناً تركت مكانه أي منكر يعرض عليك تتركه (وأي قلب أنكرها صقل قلبه -أي: جلي- حتى يكون أبيض مثل الصفا) قال: (حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد -من كثرة النقاط السود، مرباد: يعني متراكم- كالكوز مجخياً -أي منكوساً- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) لا يعرف معروفاً؛ تقول له: هذا معروف.

يقول: المعروف الأغاني والنوم والتمشية لماذا؟ لأنه منكوس، والله لو قرأت عليه القرآن كله وأعطيته الأحاديث كلها حتى ولو بعث النبي ليكلمه لم يعد ينفع فيه وعظ؛ لأنه ليس عنده مجال للاستيعاب فهو منكوس، وبعد ذلك قلبه مغطى بطبقات كبيرة من الظلام والران من كثرة المعاصي؛ حتى لم يعد للقرآن أثر يصل إلى قلبه؛ لأنه محجوب، يقول الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين:١٤] أي: غطى على قلوبهم {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:١٤].

قال عليه الصلاة والسلام: (حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) المعروف عنده: ما عرفه الهوى، والمنكر عنده: ما أنكره هواه لا ما عرفه الشرع وأنكره الشرع (وقلب أبيض كالصفاء -نسأل الله جميعاً من فضله، القلب الثاني: أبيض كالصفاء- لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) أي فتنة تأتي ترجع، مهما قيل ومهما عمل فيه لا يمكن أبداً.

شخص من السلف سلطت عليه امرأة وتعرضت له، فلما تعرضت له ذكَّرها بالله فرجعت صالحة، وكثير من الناس تسلط عليهم فتن ومصائب من أجل إغوائهم ولكن عندهم (صدامات) قوية وموانع بحيث من حين تأتي المعصية تهرب مباشرة ولا تقرب منه.

فنقول لك: عليك بطاعة الله، وانتبه من معصية الله، احذر منها ولو كانت صغيرة، فإن الصغيرة تجر إلى الكبيرة ثم تسقط والعياذ بالله، ودليل هذا قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:٦٦] فعلوا ما وعظوا به: ما وعظك الله به هو فعل طاعته وترك معصيته.

رابعاً: عليك برفقاء الخير، رفقاء الإيمان، رفقاء الدرب إلى الله، ابحث لك عن رفقة صالحة: اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة تجلس معهم وتذهب معهم وتسمر معهم يعينوك على دين الله! واحذر ثم احذر من رفقاء السوء، فإنه لا ينفعك رفيق الخير إذا كان معك رفيق سوء، فلو معك مائة رفيق خير ورفيق سيء والله ما يقومون بهدايتك وأن هذا يستطيع أن يضلك؛ لأن رفقاء الخير يبنون ورفيق السوء يهدم، والهدم أسرع من البنيان، وقد قيل:

أرى ألف بانٍ لا يقوم لهادم فكيف ببان خلفه ألف هادم؟!

البنيان صعب والهدم سهل، أما ترى الباني وهو يبني الجدار من الصباح إلى المغرب، لكن إذا أتى شخص يريد أن يهدمه ماذا يصنع به؟ يضربه ضربة واحدة فقط ويسقط كله، البناء يوم والهدم لحظة، فأنت إذا جلست مع طيبين ثم جلست مع واحد فاسد أضلك، فلا بد من الحماية للصلاح؛ فاحذر من قرناء السوء!