أيها الإخوة: هذه كلها قضايا عقدية من شئون المعاد والبعث بعد الموت، وقد جاءت الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجبة للإيمان بقضية عذاب القبر، منها: قول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}[إبراهيم:٢٧] نزلت هذه الآية كما يذكر ذلك المفسرون في عذاب القبر، ففي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إذا أقعد المؤمن في قبره) -أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هؤلاء-: (إذا أقعد) تبدأ حياته الجديدة، حياة القبر وهي عالم آخر غير عالم الدنيا، له نظامه، مثل عالم البطن الذي له نظامه، أليس الطفل في بطن أمه حي، وترصد حركته؟ لكنها حياة غير حياتنا، عنده أنف لكنه لا يتنفس منه؟ لا يوجد أكسجين في البطن، عنده فم لكنه لا يأكل به؟ فلا يوجد طعام في البطن، عنده عينان لكنه لا يرى بها؛ لأنه لا يرى في الظلمات؟ عنده أذن لكنه لا يسمع بها الكلام الذي في الخارج؟ عنده أقدام لكنه لا يمشي عليها؟ فإذا خرج إلى الدنيا تغير النظام كاملاً، فأصبح يتنفس من أنفه، ويأكل من فمه، ويرى بعيونه، وأصبح له أذن يسمع بها، ويد يبطش بها، ورجل يمشي عليها، فقد خرج إلى عالم جديد غير عالم البطن، ونسبة عالم البطن إلى عالم الحياة كنسبة عالم الحياة إلى عالم القبر، ولو جئنا عند طفل في بطن أمه مهيأ للخروج وقلنا له: يا طفل! سوف تخرج بعد دقائق إلى دنيا فيها جبال وسيارات وسماوات وأرض وأشجار وأنهار وبحار وعمارات وغيرها، فإذا فكر الولد الجنين في بطن أمه بعقلية البطن ونظر يميناً وشمالاً ماذا سوف يقول لهذه الأخبار؟ يقول: هؤلاء مجانين، هؤلاء رجعيون، عقولهم متخلفة، ويؤمنون بالخرافات، أين السماوات؟ وأين الأرض؟ وأين الجبال؟ والسيارات؟ وأين العمارات؟ لا يوجد إلا بطن أمي؛ لأنه لم ينظر إلا بطن أمه، أمامه العمود الفقري وعلى يمينه الطحال ومن هنا الكبد ومن هنا الجهاز الهضمي للأم، فإذا سجلت كلامه الذي قاله وهو صغير ثم خرج إلى الدنيا وعاش، وقلنا له: نحن وأنت صغير كلمناك في بطن أمك وقلنا لك: إنه يوجد دنيا وأنك ستخرج فيها فكذبت، ما رأيك في معلوماتك التي قلتها صحيحة أم خاطئة؟ حتماً سيقول: لا والله خاطئة، فلماذا تُكذِّب؟ قال: والله أنا قست على بطن أمي وتلفت في بطن أمي وما رأيت إلا هذا، فأحسبه كذلك، والآخرة عندما تقيسها على الدنيا تحسب أنه لا يوجد غيرها، لكن عندما تموت وتنظر الآخرة حقه:{كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون:١١٢ - ١١٣] ثم يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}[فاطر:٣٧] ربنا ردنا مرة ثانية لكي نعمل، لكن لا ينفع، نفس الكلام، نفس الميزان، عالم القبر عالم.
عندما تغطى القبور ويدفن الأموات وتبدأ الحياة الثانية، قد يأتي شخص ويقول: كيف يبدأ حياة ثانية؟ من أين يأكل؟ نقول له: يعيش بدون أكل، لكن الجسم يفتت، وتأكله الأرض والطين والدود ويذهب.
كيف يتعذب وهو تراب؟! يذكر ابن القيم في كتابه (الروح) على هذا مثالاً عظيماً يقول: ينام رجلان في غرفة واحدة، هذا على سرير وهذا على سرير، ويرى أحدهما رؤيا حسنة يرى أنه تزوج، وأنه في ليلة العمر ليلة الدخلة، وأنه دخل على الزوجة الجميلة التي يحبها وتحبه، وعاش سعيداً، طوال الليل، والشخص الذي بجواره الذي في السرير الثاني يرى رؤيا سيئة أنه تسلط عليه شخص ومعه سكين وطعنه في بطنه وفي ظهره، يطعنه طوال الليل، فهذا طوال الليل في عذاب، وهذا طوال الليل في نعيم، وجاء شخص وأقامهم وجاء عند صاحب الرؤيا الحسنة قال: قم وتلفت ولم يجد شيئاً لا امرأة ولا غيرها، فقال: لماذا توقظني؟ كنت في حلم جميل: كان عندي زوجة وانبسطت معها، وهذا الذي كان نائماً ويرى أنه يطعن حين أقمته قال: الحمد لله الحمد لله، لا إله إلا الله، جزاك الله خيراً، أيقظتني الحمد لله ليس هناك شيء وينظر وإذا به لا يجد شيئاً، إذاً هذا تنعم طوال الليل، وهذا تعذب طوال الليل، والأجساد سليمة، هذا الجسد نائم على الفراش وليس معه امرأة ولا به شيء، وهذا الجسد الثاني لم يطعن ولا حصل له شيء، لكن من الذي تنعم وتعذب؟ الروح، تنعمت الروح في الحلم الجميل فتنعم الجسد رغم عدم وجود امرأة، ليس معه إلا الفراش، لكنه طوال الليلة معه امرأة زوجة، وهذا الذي يطعن تعذب بالطعن وهل يوجد طعون في جسده؟ لا.
لكن العذاب في الروح، هذا ما سيحصل في القبر، فإذا كان المؤمن من أهل الإيمان فإنه يتنعم، لكن ليس ساعات في ليلة بل عمر طويل لا يعلمه إلا الله، يتنعم ويعيش في روضة من رياض الجنة، وذاك -أعوذ بالله وإياكم من ذلك، أسأل الله السلامة والعافية- يتعذب نار وحيّات وعقارب، ضمة القبر ومنكر ونكير، والجسد صار تراباً، ولكن الروح تتعذب، وذلك الجسد صار تراباً لكن الروح تتنعم، هذا هو ما سيحصل للناس في قبورهم، قال عليه الصلاة والسلام والحديث في الصحيحين قال:(إذا أقعد المؤمن في قبره أتي -أي: يؤتى من قبل الملائكة- ثم يشهد أن لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله فذلك القول الثابت) هذا القول الثابت، قال عز وجل:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}[إبراهيم:٢٧] أين؟ {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[إبراهيم:٢٧] أي: الآن تعيش على لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الآخرة أي: في القبر، من عاش على لا إله إلا الله وحكم نفسه بلا إله إلا الله وعاش عليها في كل شئون حياته يثبته الله، ومن عاش على غير لا إله إلا الله يضله الله كما قال عز وجل:{وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}[إبراهيم:٢٧] هذا في الصحيحين.
الدليل الثاني من أدلة أهل السنة والجماعة على إثبات عذاب القبر ونعيمه: قول الله عز وجل عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر:٤٦] فدلت الآية على أن عذابهم يوم القيامة في النار ولكنهم الآن في البرزخ يعرضون على النار، قال عز وجل:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً}[غافر:٤٦] أي: فترة البرزخ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}[غافر:٤٦] أي: يوم تنتهي فترة البرزخ في القبور: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر:٤٦] هذا دليل صريح في إثبات عذاب القبر.
قال قتادة -والنقل عن الطبري في تفسيره - يقول قتادة:[يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم غدواً وعشياً] على سبيل التوبيخ، وعلى سبيل النقيصة والصغار -والعياذ بالله- وأعوذ بك اللهم أن يكون مصيرنا إلى النار، يعرضون عليها غدواً وعشياً، فرعون الذي كان يقول:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النازعات:٢٤] وكان يقول لأهل مصر: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص:٣٨] وكان يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}[الزخرف:٥١] كانت جداول نهر النيل تتخلل قصوره، وتسري في بساتينه ثم يقول:{أَمْ أَنَا خَيْرٌ}[الزخرف:٥٢] يقول: أنا أفضل: {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ}[الزخرف:٥٢] أي: موسى: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:٥٢] لا يستطيع أن يتكلم، لكن أين هو اليوم؟ في سافلة آل فرعون في النار {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر:٤٦].
الدليل الثالث من أدلة أهل السنة والجماعة: قول الله عز وجل: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ}[الطور:٤٧] قال ابن جرير: اختلف في العذاب الذي توعد الله به الظلمة قبل يوم القيامة، فقال معظم أهل التفسير: هو عذاب القبر؛ لأن الله تعالى يقول:{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ}[الطور:٤٧] أي: قبل العذاب الأخير الذي في الآخرة، أين يكون هذا؟ قال أهل التفسير: هو في القبر.