[من مظاهر رحمة الله: تجاوزه تعالى عن عباده]
أيضاً من مظاهر رحمة الله تبارك وتعالى: تجاوز الله وتوبته عن العبد إذا تاب قبل الموت بل أشمل من تجاوزه: تبديل سيئاته حسنات، رجل كان مسرفاً في المعاصي، وعاش حياته كلها على الذنوب، ثم تاب، وقد سُجِّل في دواوين سيئاته ملايين السيئات، ثم تاب وحسنت توبته، والله تبارك وتعالى من فضله ورحمته يمحو هذه السيئات ثم يثبت بعددها حسنات، كأنه كان يعمل حسنات، هذا فضل ورحمة، أم لا؟! يقول الله تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:٧٠].
جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والقصة يذكرها ابن كثير نقلاً عن ابن أبي حاتم، يقول: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سقط حاجباه على وجهه، من كثرة طول سنه، وتقدم عمره، فقال: (يا رسول الله! رجلٌ غدر وفجر، ولم أدع حاجة ولا داجةً إلا اقترفتها، ذنوب لو قسمت على أهل الأرض لأهلكتهم، فهل لي توبة؟ قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم، قال: اذهب، فإن الله قد كتب لك بكل سيئة حسنة، قال الرجل: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟! -يعني: الكبار، التي ما يُتَصَوَّر أن يغفرها الله تعالى- قال: وغدراتك وفجراتك.
فولى الرجل وهو يقول: لا إله إلا الله! سبحان الله!).
فما أعظم فضل الله، وهذا الكلام نوجهه لأنفسنا وللمسرفين في الذنوب، والذين عندهم ذنوب كثيرة، ويقولون: ربنا لن يقبلنا لا والله، مهما كان ذنبك، فإن رحمة الله أوسع من ذنبك، فقط غيِّر الوجهة: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:٥٤] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣] وبعد ذلك: {وَأَنِيبُوا} [الزمر:٥٤] بعضهم يأخذ آخر الآية ويترك أولها، يقول: إن الله غفور رحيم، لكن أين {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:٥٤] أي: توبوا وأسرعوا، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:٥٤].
فلا بد من التوبة والإنابة والرجوع إلى الله.
أما التوبة بعد فوات الأوان لا تنفع {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:١٨] لم تعد تنفع: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:١٨]، وقبلها يقول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:١٧].
فأنت عليك أن تتوب الآن.
ولا داعي -أيها الإخوة- للمجازفة في قضية التوبة، فإن المجازفة في التوبة مجازفة خاسرة؛ لأنه إذا كان الإنسان يعصي الله فتقول له: الآن هل أنت راضٍ عن وضعك وعن معصيتك، أم لا؟! سيقول لك: لا، أنا ليست براضٍ.
هل قرَّرتَ أن تتوب إلى الله، أم لا؟! سيقول: قرَّرتُ أن أتوب.
متى تتوب؟! حدد لي يوماً معيناً.
سيقول: فيما بعد.
متى بعد سنة؟ سيقول: لستُ أدري.
بعد شهر؟ سيقول: لستُ أدري.
إذاً: أنت كذابٌ، لا تريد أن تتوب، لو أنك تريد أن تتوب فلا بد أن تحدد.
وإذا قال: أحدِّد، بعد سنة.
نقول: هل عندك ضمان أنك تعيش إلى بعد سنة.
فإذا قال: ليس عندي ضمان.
قلنا: إذاًَ: لماذا تؤخر على غير ضمان، إذاًَ: يلزمك أن تتوب الآن، فإنك إن تبت الآن، ومدَّ الله في عمرك، كانت حياتك كلها طاعة، وسلمت من سوء الخاتمة، وإن لم تتب الآن، ومد الله في عمرك وأنت عاصٍ، كانت حياتك كلها وبال عليك، وكنت عرضةً لسوء الخاتمة، فربما تموت الليلة، أو غداًَ على سوء الخاتمة.
إذاً: الخيار الأفضل لك أيها الإنسان ولي ولكل مسلم هو التوبة؛ ولهذا جاء في الحديث عن الأغر المزني يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر في المجلس الواحد مائة مرة).
وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (توبوا إلى الله يا عباد الله! إنه ليُغان على قلبي فأتوب إلى الله سبعين مرة) ما هو الغَيْن؟ قالوا: يُغان على قلب الرسول يعني: طبقة خفيفة من الغفلة، وإلا فإن الرسول لا يغفل عن الله، فالرسول مِن أَذْكَر عباد الله ومن أخشى الناس لله ومع هذا يقول: يُغان، لم يقل: يَغْفُل؛ لأن الغَين: يعني: طبقة خفيفة سريعة تأتي على القلب فيستغفر منها الرسول سبعين مرة، ونحن لا نستغفر! نستغفر الله الذي لا إله إلا هو ونتوب إليه، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
فمجازاة الله للعباد قائمة على الرحمة، ولهذا إذا تاب الإنسان مسح الله كل ذنوبه، وهذا من أعظم ما يمكن أن نصف به مظاهر رحمة الله تبارك وتعالى.