[تفسير كلمة الهوى]
هل هناك أعظم من سماع خطاب رب العالمين في الجنة؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) يكلمك رب العالمين، من أنت؟ أي رفعة وأي عزة؟ وأي مكان أعظم لك من أن تكون طرفاً في مناقشة وفي محادثةٍ الله الطرف الثاني فيها؟ وأي فخر وأي عزة -أيها الإخوة- لماذا نضيع هذا؟ ومتى تناله؟ بهذا الشرط: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:٤٠] فقط خاف مقام الله، خاف وقوفه بين يدي الله، فاتق الله وضع بينك وبين عذاب الله وقاية، وبعد ذلك انه النفس عن الهوى، ما هو الهوى؟ المزاج.
الذي يقول أكثر الناس الآن: على مزاجي، أو على هواي، لا.
لست على كيفك ولا على مزاجك، ولا على هواك، أنت على مراد خالقك ومولاك، أنت على مراد ربك، أنت عبد مقهور لمعبود قوي قهار، أمرك ونهاك، لم يدع في حياتك جزئية من جزئياتك إلا وعليها أمر ونهي، كل حركة من حركاتك عليها أمر ونهي، منذ أن تفتح بصرك، من يوم أن تستيقظ إلى أن تغمض بصرك وأنت نائم، ما تنفك عن أمر لله أو نهي لله.
حتى المباحات ليس لها علاقة في الدين، افعلها أو لا تفعلها، لكنك إذا فعلتها بنية حسنة تتحول إلى دين، يقول عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة) ويقول: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) ويقول: (إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) كل هذا تعظيم من الله سبحانه وتعالى لشأن هذا الإنسان.
وقد كنت مرة من المرات، أجلس مع رجل في بلد إسلامي في مؤتمر للإعجاز العلمي، ومعنا رجل كافر من أشهر أهل الأرض في علم الجولوجيا وهو من إحدى البلدان الغربية، وألقى محاضرة على الناس، ودلل بالدليل العلمي عن طريق الشرائح والأبحاث والصور التي التقطت عن طريق الأقمار الصناعية، والتي تغوص حتى في باطن الأرض، دلل على أن كل جبل في الدنيا له وتد في الأرض، وقرأ قوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} [النبأ:٧] الجبال أوتاد لتثبيت الأرض: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:١٥].
أي: لئلا تميد بكم، لولا الجبال كانت الأرض تميد، لكن الله أرساها: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:٣٢].
ثبت الأرض بالجبال، وكل جبل جزئين منه فوق وثلاثة أجزاء تحت، إذا وضعت وتداً للخيمة أي جزء أكثر في الأرض فوق أو تحت؟ الذي تحت، لو جعلت -مثلاً- الجزء الأعلى سقطت الخيمة، لكن تثبت الخيمة بوضع ثلثي الوتد أسفل، وهذا الذي يحصل الآن في الجبال.
وعندما انتهى من المحاضرة سألت الذي بجانبي، وكانت المحاضرة مترجمة وعندي جهاز يترجم، قلت: هذا آمن بلسانه، كلامه كله يدل على الإيمان حتى القرآن قرأه، هذا مسلم؟ قال: لا.
لم يسلم إلى الآن، فقلت في نفسي: سبحان الله! سبحان الله! يقول الله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأعراف:١٤٦].
ثم سبحان الله في ثالث ليلة وكنا في المطعم، جلست أنا وأحد الإخوة نتعشى فعرف ذاك، قال: لنذهب نتعشى معه -وكان وحده- قلت: لا والله لا أذهب معك، كيف آكل مع كافر؟ قال: لنذهب يا أخي! ندعوه إلى الإسلام، قلت: ليس عندي مانع، فقمنا وأتينا إليه وجلسنا فعرفه بي وقال: فلان من السعودية ويدعوك إلى الإسلام، وقد أعجب بمحاضرتك، وسمع استشهاداتك العلمية، فقال لي -انظروا شبهته، شبهة بسيطة جداً هي التي أوقفته عن الإسلام- يقول: أنا أعرف أن الإسلام هو الحق، وأن هذا القرآن من عند الله، وأن الرسول نبي من عند الله، إذ لا يمكن أن يعرف هذا الكلام إلا رسول موحى إليه، ولكني أكره في الإسلام شيئاً واحداً، وهو: أن الإسلام يتدخل في جزئياتي الشخصية، يجعلني آكل نوعاً معيناً من الطعام، وأترك أنواعاً، ويجعلني آتي نوعاً من النساء وأترك أنواعاً، وأنا إنسان أحب أن أكون حراً آكل ما أشاء وأرفض ما أشاء، وأنكح من أشاء، قلت: هذه فقط، قال: فقط، قلت: قل له: نحن المسلمون نعتبر هذا وساماً نعلقه على رءوسنا، أن الله يكرمنا لدرجة أنه يحدد لنا أمورنا بحيث لا نأكل إلا بأمره، بدلاً من أن آكل بشمالي آكل بيميني، ومن الذي أمرني أن آكل بيمني؟ ربي، هذا شرف أم ليس بشرف؟ شرف أن الله يأمرك كيف تأكل، بل يعلمك كيف تدخل الحمام وكيف تخرج من الحمام، أي عزة للإنسان نالها في ظل الإسلام.
ثم قلت له: هذه الشهوات التي تتمتع بها، وهذه الأمور أليس فيها طيب وغير طيب؟ بالعقل وبصرف النظر عن الدين.
قال: نعم.
قلت: أي شيء حرمه عليك الشرع والدين وهو طيب؟ وأي شيء أباحه لك الشرع وهو غير طيب؟ قال: لا يوجد.
لأنه يعلم أن الزنا حرام وخبيث يجر إلى الإيدز وإلى الفساد.
وآخر ما قرأت في مجلة أن في بلد إسلامي -قريب- فيه فنادق تمارس فيها الجرائم، وبعد ذلك صدر أمر بالقبض على البغايا، وحللوا فوجدوا إحدى وثلاثين منهن يحملن فيروس الإيدز، الذي يأتي عن طريق الزنا، والعلاقات المحرمة والعياذ بالله.
فالله عز وجل لم يحرم الزنا وفيه خير: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:٣٢] فاعترف الرجل لي أن كل ما أحله الله طيب، وكل ما حرمه الله خبيث، لكن: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:٤١].